Friday, June 22, 2007

تجربتي المنقضية مع حزب التحرير وتداعياتها - الجزء الثاني

وكان لطروحات جودت سعيد ومالك بن نبي ومفكرين آخرين كمحمد عابد الجابري ومحمد شحرور ومعظم المفكرين الذين كانوا يشيرون إلى أن الخلل حقيقة ليس في السلطة السياسية من حيث الجذر، بل بالأفكار والعقل المريضين الذين سينتجا مرة بعد الأخرى جميع الأمراض التي نعاني منه كمجتمعات مسلمة، بما فيها الدكتاتورية والفرقة الداخلية والقابلية للاستعمار الداخلي والخارجي الأثر الكبير على تفكيري الجاد بالانسحاب


<>- كيف كنت تنظر للأحزاب العلمانية (التي كان معظم كوادرها في السجن) في ذلك الوقت؟ هل تسنى لك أي احتكاك معها؟

بدابة سأبني على أن المقصود بالعلمانية هو المفهوم الممتد من الفصل مابين الدين والحياة إلى إنكار الدين بالدرجة القصوى. على أقل تقدير كانت الأحزاب العلمانية –الاشتراكية والشيوعية- مرفوضة إن لم أقل محاربة من الأوساط والاتجاهات الإسلامية. وأذكر هنا استغرابا كان موجودا (وربما هو موجود الآن لدى الكثيرين) أن هذه الأحزاب تخاطب وتحاول أن تفرض على مجتمعات دينية خطاباً ومشروعا سياسيا غريبا عنها بل هو أقرب إلى عملية زراعة كبد بقرة في جسد قطة.

بالإضافة إلى القناعة الشخصية تلك آنذاك، فإن ما طرحه فكر حزب التحرير حول المبدأين الرأسمالي والشيوعي (ضمنا الاشتراكي) هو وصف لمدى اختلاف وفشل وخطأ مقاربات هذين الاتجاهين لأسئلة العقدة الكبرى: من أين؟ ولماذا؟ وإلى أين؟ أو التساؤلات الإنسانية عن الإنسان، الكون والحياة؛ على عكس الدين الإسلامي الذي (بناءا على طرح الحزب) استطاع الإجابة على تلك الأسئلة بشكل يرضي ويروي عطش هذه التساؤلات بشكل فطري.

أيضا يضاف إلى ذلك مسألة الارتباطات الخارجية لتلك الأحزاب بحكم نشأة الفكر العلماني ككل، حيث استخدم الحزب هذه الارتباطات لتقويض شرعية هذه الأحزاب وبالتالي إقصاءها من التواجد في ساحة العمل الإجتماعي السياسي بشكل جذري في أدبياته، ولا يخفي حزب التحرير رفضه لوجود الأحزاب العلمانية ضمن جسد "الدولة الإسلامية" حال تحققها، فالآخر بالنسبة له هو الآخر المنبني على الأساس الديني الإسلامي فقط.

ومن المفيد ذكره هنا أنني لم يسبق لي قبل معرفتي للحزب أو أثناءها أن التقيت بمن يحمل أفكارا علمانية في إطار جهود تنظيمية أو من يدعو إليها، فأستطيع القول أنه لم يتسن لي الاحتكاك بأحزاب علمانية مطلقا.


<>- هل من الممكن تزويدي بوصف مكثف لتجربتك في الحزب؟ ما ذا كان دورك، كيف كنت تنظر إلى ذلك؟ إلى أي مدى وجدت نفسك والتقت قناعاتك مع فكر هذا الحزب؟


تكاد تجربتي في الحزب تقتصر على القراءة ومطالعة الأنباء وتحليلها بالإضافة إلى الدراسة المنتظمة لكتب الحزب ضمن الحلقة المعدة لذلك، وكنت قارئا نهما فما أن يصلني كتاب من كتب الحزب (التي كنا نشتريها بمبالغ معقولة) حتى أبادر إلى قراءته ملتهما إياه في أيام معدودة، وكذلك الأمر بالنسبة لمجلة عنوانها "الوعي" كانت تصدر غالبا في لبنان بجهود "الشباب" (كما كنا أحيانا نطلق على أعضاء حزب التحرير) اللبنانيين، معظم هذه المطبوعات كانت تصلنا منسوخة على الناسخة الضوئية.

إضافة إلى ما سبق ونتيجة لحماستي الشديدة للحزب وأفكاره التي كانت تتمتع بترابط منطقي وحجة بليغة قويين، كنت أحاول بث هذه الأفكار فيمن حولي من الأصدقاء والمعارف، دون التصريح بمصدرها إلا لمن كنت واثقا من رجاحتهم وأمانتهم، وهؤلاء كنت أحاول جذبهم للانخراط بشكل عملي في دراسة كتب الحزب ومنهاجه كما كنت أفعل أنا نفسي -على مبدأ "أحب لأخيك ما تحب لنفسك."

لم يكن هناك أنشطة تربوية خاصة يقوم بها الحزب، وهو يرفض فكرة الرعاية الفردية وبناء الفرد الأخلاقي والنفسي بجهد يقوم عليه الحزب، ويفضل أن يقوم الفرد نفسه بهذا الجهد بشكل ذاتي لتزكية نفسه، وهكذا فقد كان الاحتكاك مع الحزب هو من خلال حلقات الدراسة تلك ومناقشة أفكار الحزب ومنهاجه (الذي يركز بشكل أكبر على تنمية الوعي والولاء السياسي لهدف استئناف الحياة الإسلامية في مجتمع تحكمه الدولة الإسلامية،) بالإضافة إلى متابعة الأحداث الجارية عالميا و تأثيراتها المحلية. لاشك أن هذا التركيز على الحس السياسي والقدرة على الاستقراء السياسي قد أفادت في تنمية هذا الجانب عند كل المنتمين أو الحاملين لفكر الحزب، إلا أن هذا لم يلب بشكل كاف رغبة العديد ممن عرفتهم خلال تلك الفترة بإشباع الحاجة إلى الروحانيات والأنشطة التي تغذي النفس بالطاقة اللازمة.

أنا بحكم وضعي كـ "دارس" لم أكن مكلفا بأي نشاط خارج عن الدراسة بحد ذاتها، فلم أكن أحمل المنشورات السياسية أوالبيانات لتوزيعها. وكما قلت سابقا أنا لم أكن أعتبر حزبيا بالمعنى التنظيمي، وهكذا فلم يكن من حق الحزب أن يطلب مني القيام بأي نشاط، أما حقيقة حملي لأفكار الحزب و الدعوة لها ومناقشتها و نشرها بين من كنت أثق بهم من الأصدقاء أو الأقارب فكان بمحض اختياري وحريتي الشخصية.


<>- هل غادرت الحزب قبل أو بعد الاعتقال؟ كيف، ولماذا؟

الحقيقة لا أدري إن كان إنهاء علاقتي الدراسية مع الحزب يمكن وصفها على أنها مغادرة، فحقيقة الأمر أن صلتي بالحزب –رغم إيماني وحماستي له ولأفكاره وأهدافه في البداية- لم تتعد المرحلة التي يطلق عليها المرحلة التثقيفية وخلالها لايعتبر الشخص –رجلا أو امرأة بالمناسبة- حزبيا ويطلق عليه تسمية "دارس،" فمن الناحية التنظيمية هذا الشخص مازال غير منتسب رسميا إلى الحزب ويحق له أن ينسحب في أي لحظة يراها هو مناسبة، ولم يسبق أن كان لانسحابات كهذه تداعيات أو إشكاليات على ما أعلم.

أما إنهاء علاقتي مع الحزب فكانت في عام 1991، إذ أبلغت "مدير الحلقة" (الشخص الذي يقوم على تثقيف الدارسين) آنذاك بقراري إنهاء الصلة، طبعا كان هناك اضطراب بسيط من طرفه إلا أنه كان نوعا ما يتوقع هذا الأمر، خاصة وأن نقاشات كثيرة حول أفكار تأسيسية لحزب التحرير كانت تجري بشكل متكرر، وكنت أعبر فيها عن تغير قناعتي تجاهها؛ وأذكر أنه هيأ للقاء مع شخص آخر لم يسبق لي أن التقيته قبل ذلك في محاولة لمناقشة قراري ومحاولة إقناعي بالعدول عنه. هذا اللقاء لم يغير أو يؤثر على عزمي بإنهاء العلاقة، فقد كانت الأفكار التي جدّتْ لدي و كنت أحملها وأومن بها بما يتعلق بالتغيير الاجتماعي والسياسي، لا يمكن لها أن تتوافق أو تتعايش مع أفكار صميمية و تأسيسية يعيشها الحزب بشكل عملاني.

بعد أن شرحت لممثلي الحزب موقفي وأفكاري الجديدة التي أومن بها شعرا بجدية وصدق خطابي لهما، واستطعت أن أبين لهما حقيقة امتناني واعترافي بالفضل لحزب التحرير في توسيع أفق تفكيري و تزويدي بمفاهميم وإضاءة زوايا من العمل والحراك الاجتماعي السياسي لم يكن لي أن أصل إليها بمفردي، إلا أن هذا لا يعني استمرار صلتي بهم فالأمر بالنسبة لي هو مفترق طريق. عندها قال لي: حسنا... يبدو أن قرارك نهائي، على كل حال... أدعُ الله لنا بالتوفيق؟ فأجبته: من طرفي سأدعو لكم... لكن ظني أن الله لن يوفقكم. وصافحتهما مودعاً. كان هذا قبل اعتقالي بحوالي تسع سنوات على ذمة تلك الصلة القديمة!!

نأتي الآن للإجابة عن لماذا؛ بشكل أساسي و دون الخوض في التفاصيل، كان الشيئين أو المفهومين الأساسيين الذين تغيرت قناعتي تجاههما ومن ثم بناءا عليه قراري بالانسحاب هما "العمل السري" وما يطلق عليه "طلب النصرة،" وقد كان لاحتكاكي و متابعتي للمفكر جودت سعيد و طروحاته الأثر الأساسي في تغيير هذه القناعات، بالإضافة إلى إدراكي لحقيقة أن تغيير الواقع الذي نعمل على إصلاحه وتحسينه لا يأتي بتغيير شكل السلطة أو بالإتيان إلى رأس الهرم وتغييره على أمل أن تعكس القاعدة هذا التغير بشكل أوتوماتيكي، وكان لطروحات جودت سعيد ومالك بن نبي ومفكرين آخرين كمحمد عابد الجابري ومحمد شحرور ومعظم المفكرين الذين كانوا يشيرون إلى أن الخلل حقيقة ليس في السلطة السياسية من حيث الجذر، بل بالأفكار والعقل المريضين الذين سينتجا مرة بعد الأخرى جميع الأمراض التي نعاني منه كمجتمعات مسلمة، بما فيها الدكتاتورية والفرقة الداخلية والقابلية للاستعمار الداخلي والخارجي الأثر الكبير على تفكيري الجاد بالانسحاب. ووصلت إلى النتيجة التي تقول أن الخلل هو في العقل و بنية العقل لدى الأمة، أما السلطة السياسية فما هي إلا انعكاس لما تحمله الأمة وثقافتها من أفكار ومن ثم تعكسها طبيعة هذه السلطة مجددا على الأمة، ورغم أن الجدل (الديالكتيك) موجود ما بين قطبي الأمة و السلطة، إلا أن التغيير الجوهري يجب أن يحدث في الأمة.

والحال كذلك فإن "طلب النصرة" الذي يمكن أن أشرحه ببساطة بأنه طلب دعم مراكز القوة في الهيكل السياسي للمجتمع الذي ينشط به الحزب، وهو بناءا على قناعة الحزب يكمن في القوة العسكرية للجيش وجنرالاته في معظم البلدان التي يتواجد بها الحزب؛ وهذا يعني بساطة أن الحزب يهدف و ينشط عمليا –رغم أن الحزب يولي أهمية لعملية تثقيف الأمة- في طلب السلطة عن طريق الانقلابات العسكرية، أي احتمال العنف الداخلي موجود بشكل كبير ومتوقع، وهذا كان مرفوضا بالنسبة لي، لأنه في النهاية يعيد تكرار مأساة فرض أنماط الأفكار والحياة على المجتمع بقوة السلاح والعسكر لا بقوة الأفكار والمباديء وهذا سبيله إلى الزوال.

وكل ما سبق يترافق مع "العمل السري" بشكل لازم، الأمر الذي تعيه السلطة الحاكمة بشكل متيقظ دائم التحفز ، لا بل و تستخدمه للصيد في المياه العكرة ففي الظلام يسهل اتهام أي ناشط بجرائم ضد الدولة والمجتمع دون أن يكون له القدرة أو السند الاجتماعي الذي يعينه على ضحد ما يمكن أن ينسب إليه، ويحرمه من احتواء المجتمع له ولنشاطه بما يضمن استمرار تأثره به، إضافة أنه قد سبق لمحاولات إنقلابية قام بها الحزب أن باءت بالفشل باعترافه، وهذا كان طريقا مسدودا بل جدارا أصر الحزب على أن يحطم نفسه عليه مرة تلو المرة دون جدوى!

وأذكر من مقابلتي الأخيرة لعضو حزب التحرير، عندما سألني إن كان هناك أمر يمكن أن يقوم به الحزب ويجعلني أعدل عن قراري يالانسحاب؟ أنني أجبته: نعم... هناك، إن أعلن حزب التحرير في جميع الوسائل الإعلامية الممكنة أنه تخلى عن طلب السلطة وأنه سيخرج من العمل السري إلى العلنية فسأعود عن قراري! مقتل حزب التحرير هو في طلب السلطة عن طريق الانقلابات العسكرية أي العنف، وفي العمل السري. وأنا لم أكن مستعدا للاستمرار بالسير في طريق نهايته الفشل حتى إن واتته رياح ما ونجح!

Thursday, June 21, 2007

ماذا عن الجولان؟

أحد المواقع التي تستأثر باهتمامي [ كرييتف سيريا] طالب من يرغب من المشاركين الإجابة عن السؤال التالي: "لو كنت ستكتب رسالة من صفحة واحدة لمواطن إسرائيلي لا يعتقد أن على حكومته إعادة الجولان لسورية، فما الذي ستقوله له/ لها؟"

تم نشره على الموقع (بالإنكليزية) وتجدونه ---> هنـــــا

وفيما يلي جوابي الأصلي بالعربية...

لم يتوجب على إسرائيل أن تعيد الجولان إلى سوريا؟!


هو سؤال من البدهي الإجابة عنه لدرجة الغموض!... وما الذي يمكن اقتراحه بالمقابل؟... أعتقد أنه استمرار الحرب والكراهية والحقد والضغينة... لكن مالذي يضمن للإسرائيليين أن كل هذه المشاعر ستختفي بمجرد عودة الجولان إلى سورية!... لا ضمان! ولايستطيع أحد أن يكفل أو حتى أن يتشدق بالحديث نيابة عن جميع المتألمين والغاضبين من العدوان العالمي على الرجل المريض والذي تبلور واتخذ هيئة على شكل دولة هجينة تم زرعها في جسد ضعيف أنهكته تتاليات حقب القهر والتخلف. إذا... علينا أن نتحلى بالشجاعة كي نقوم بفعل ما هو صحيح بغض النظر عن أي شيء آخر.


هل كلامي غير مفهوم؟ هل أحاسيسي غير ذات قيمة؟ وماذا لو كنت عينة من ملايين؟!


علماء النفس يقولون أن الطفل الذي يصفعه أبوه في ثانية يحتاج لستة أشهر كي يستعيد توازنه ويستعيد ثقته بمن صفعه! فكم برأيكم يحتاج السوريون، إن لم نقل العرب كي يستعيدوا توازنهم وثقتهم بالمجتمع الدولي الذي أسهم في إيجاد الكيان الدخيل، وما يزال يسهم في تمزيق الجسد العربي الحي ويقتطع من لحمه الرطل بعد الآخر!


هل قضية الجولان حكر على السوريين كي يبتوا فيها هم وحدهم، وهل قضية القدس و فلسطين حكر على الفلسطينيين كي يبتوا بها وحدهم أيضا؟! بالطبع لا! منذ اللحظة الأولى التي بدأ فيها تهجير السوريين عامة والفلسطينين خاصة من أرض فلسطين، والعرب جميعا يدفعون كلفة هذا العدوان الوقح على أبسط وأوضح الحقوق الإنسانية، الحق بأن لا يطردني أحد من بيتي وأرضي فقط لأنه يستطيع ذلك و لعدم قدرتي على التشبث بحقوقي!


لماذا يحق للحركة الصهيونية الادعاء بحق اليهود التاريخي العودة إلى "أرض الميعاد" التي لم ينسوها طيلة آلاف من السنين ولا يحق ذلك للعرب المسلمين وغير المسلمين الذين أيضا عاشوا على هذه الأرض ذاتها أيضا لآلاف من السنين؟! ومن قال أن هؤلاء النصارى و من ثم المسلمين ليسوا أساساَ و بنسبة كبيرة من جذور يهودية، واختاروا أن يؤمنوا بالمسيح و من ثم اختاروا أن يؤمنوا بمحمد؟! من قال أن الفلسطينيين لم تكن جذورهم يهودية أو على الأقل نسبة كبيرة منهم وبفعل التحولات التاريخية الطويلة استمروا بالبقاء في أراضيهم و تغيرت معتقداتهم فكان منهم المسيحيون والمسلمون، وهم كانوا دوما أصحاب الأرض وما زالوا!


عندما تم تهجير الفلسطينيين أصحاب الأرض بشتى الطرق الوحشية من مجازر و تجويع و تهجير وحصار، هم كانوا ليس فقط من الجيل الرابع أو الخامس الذي ولد على تلك الأرض، هم كانو من الجيل ما بعد الخمسين ربما! إلا أن هذا يتم تناسيه عندما نشعر بالأسى للجيل الرابع أو الخامس الذي ولد على أرض لم تتوقف فيها حرب الاحتلال والاستيطان والتهجير منذ بدأت عصابات الهاغاناه والشتيرن بحصد أرواح العزل السذج قبل ما يقارب الستين عاماَ!! فما نقول لأصحاب الأرض؟! ما نقول لهم! ما نقول!


أنستجدي الجولان؟... لمَ؟ وهل نظام الحكم الذي سلم الجولان لقمة سائغة وعلى طبق من ذهب لإسرائيل مهتم فعلا بعودة الجولان؟ أو بالحياة الكريمة لأهل الجولان؟ لم هذا الاستخفاف بعقولنا؟ لا أدري!


ما أقوله لمن يملك القليل من الضمير والعقل السليم ممن يقال له "مواطن إسرائيلي" هو:


إن أعاد المحتل الأرض التي اغتصبها بشرعية قانون الغاب إلى أصحابها فهذا فعل إنساني بديهي ويحمل مصداقيته في نفسه، فالدليل على سطوع الشمس هو سطوعها بحد ذاته، أما إن احتاج النهار إلى دليل على أنه نهار فهنا الطامة الكبرى! إن القيام بالفعل الذي تعارف البشر جميعا على صحته وشرعيته جيلا بعد جيل أحقابا من بعد أحقاب ودهرا بعد دهر ، أمر لا يُنتظر مقابله الشكر والعرفان بل هو الأمر البدهي الطبيعي، وعكسه هو الأمر الهجين.


وإن أصر المحتل على غصب الحقوق والأرض بغير الحق، فما نقول إلا... بؤسا للبشرية التي لم ترق بعد للسوية التي تحفظ دماء وأموال وحقوق وأعراض بعضها البعض! ولكن هي دورة التاريخ ستدركنا وتجرفنا بحتميتها إن لم نختر أن نكون فاعلين وليس منفعلين! وإسرائيل تحفر كل يوم قبرها بيديها بكل إخلاص وتضحية، والتاريخ يضحك ويذرف الدموع في الآن ذاته على المأساة الكوميدية السوداء التي حشر بني آدم أنفسهم في زاويتها.


إن أرجعتم الجولان أحسنتم لأنفسكم وإن لم ترجعوها فقد أسأتم لأنفسكم قبل أن تسيئوا لغيركم وإن لم نستطع اليوم أن نحصل على حقنا، فسيأتي زمن يمنحنا القوة ويتواطأ معنا كما تواطأ معكم لكن الذي سيدفع الثمن من إنسانيته وجوهره هو كلانا، نحن وأنتم... كما ندفع اليوم جميعنا على وجه هذه البسيطة ثمن ضيق الأفق وقلة الصبر واتباع الأهواء والأطماع وطاعة أهل الجشع الذي لا ترويه كل دماء المعذبين!


ونفس وما سوّاها

فألهمها فجورها وتقواها

قد أفلح من زكاها

وقد خاب من دساّها

Saturday, June 16, 2007

تجربتي المنقضية مع حزب التحرير وتداعياتها - الجزء الأول

قراءة في صفحات الذاكرة ...لقاء مع معتقل سياسي سابق

قليلة هي القصص الواقعية التي نسمعها أو نطالعها حول ناشطين سوريين سبق لهم أن خبروا تجربة الاعتقال السياسي المترتب على انتمائهم لتيارات إسلام سياسي محظورة كما هي الحال بالنسبة لحزب التحرير. ورغم أن من نلتقيه اليوم يرفض وضع تجربته الفكرية والثقافية الحراكية وتأطيرها وتلوينها بلون أحادي (حزب التحرير) خصوصا عندما نعلم أن فترة احتكاكه مع الحزب المذكور تعد من الخبرات القديمة والمنتهية عمليا بالنسبة له؛ إلا أن تسليط ضوء النقد على تجربة كتلك بسلبياتها وإيجابياتها هو أمر نحتاجه لمعرفة المزيد عن آليات وأنماط ثقافية واجتماعية وما رافقها من ظروف موضوعية خارجية أدت وربما ما تزال حتى الساعة إلى ازدياد أعداد المنخرطين أو المستطلعين للالتحاق بصفوف تيارات الإسلام السياسي المتنوعة والمتفاوتة، والتي يتنامى تأثيرها و تواجدها بشكل محسوس في أوساط المجتمعات العربية المتدينة، وخصوصا بعد أن وصلت خطابات وشعارات بقية التيارات إلى حالة من العطالة إن لم نقل العقم بل و حتى في بعض الحالات إلى الخيانة التامة لنفس المبادئ التي بنت خطابها وأرضيتها الجماهيرية عليها.

همّام يوسف هو صاحب القصة التي سنتابع بعض تفاصيلها هنا، ولا يخالطنا الشك أن ما طرحناه من أسئلة ليس الغرض منه اختزاله إلى أبعاد محدودة تفرضها طبيعة الأسئلة، بقدر ما هي بوابة للولوج إلى "كون" هذا الفرد وتقاطعات عالمه مع العالم الخارجي بل مع عوالم جميع الذين أحاطوا به وما زالوا.

ولد همّام لأسرة متدينة قارئة متعلمة، ونشأ في مدينة دمشق وتعلم في مدارسها وعاش في أجوائها، أنهى دراسته الجامعية في كلية الهندسة المعمارية في جامعة دمشق في أوائل التسعينيات. وكان اعتقال والده في أوائل الثمانينيات هو المرة الأولى التي يختبر بها تجربة الاعتقال السياسي، ومن ثم جاء اعتقاله هو نفسه في نهاية عام 1999 ليضعه في خضم هذه التجربة. يؤمن همّام بمبدأ اللاعنف والتغيير السلمي على الصعيد الاجتماعي/ السياسي، ويؤمن ويدعو إلى "إيجاد الآخر" فضلا عن القبول به، وما يزال يتمسك بجذوره الإسلامية وكتابه المقدس "القرآن الكريم" بل يعتبر هذه الجذور أساسا راسخا يكرس العدل والسلم والتنمية، بل بوابة واسعة لحرية الإنسان في مختلف أوجهها.

لهمّام مدونة على الشبكة العالمية يودع فيها من آن لآخر ما يعبر عن بعض ما يعتلج في صدره أو ما يراه ضروريا لتكريس ثقافة الانفتاح والقبول بالآخر، إضافة إلى بعض رؤاه في ما يجري من حوله على الساحة السياسية والاجتماعية.

لأسباب مختلفة وخياراته الخاصة يعيش همّام مع زوجته التشيكيّة في براغ، ويتابع من بعد ما يجري في وطنه سوريا ويحاول البقاء على تواصل مع ما يجري هناك تعويضا عن رغبة دفينة بالعودة لا تبارح أفئدة جميع المغتربين عن أوطانهم. إليكم هذا اللقاء.


<>- من كان همّام قبيل تفكيره في الدخول إلى الحزب أو انجذابه إليه؟ عمرك، اهتماماتك، خلفيتك الفكرية، وضعك العائلي والاقتصادي.

كنت في الثامنة عشرة حينها في بداية دراستي الجامعية، وكان التفكير في التغيير أو فعل شيء ما للوقوف في وجه الظلم والبؤس موجود دائما في ذهني ومنذ الصغر حقيقة، فبسبب المفاهيم التي نشأت عليها... أن المسلم يجب أن يهتم بأمور المسلمين ويسعى لنهضتهم ونصرتهم، ولأن والدي سابقا كان من الناشطين إسلاميي التوجه المعروفين، وبسبب تأثيره الكبير على من حوله، حيث استطاع أن يسخر قدرته الأدبية ككاتب إضافة إلى معرفته التاريخية كمؤرخ والعملانية الموضوعية كناشط، في غرس أفكار التمرد على الظلم والقهر في من حوله، وبالأولى أبناءه. ورغم أنه اعتقل إلى غير رجعة -الشيء المألوف عن معتقلي الثمانينات في سورية، رغم أنه لم يكن من الإخوان المسلمين بالمناسبة- عندما كنت في العاشرة، إلا أن تأثيره كان قد نقش في الحجر كما يقال، وربما جاء اعتقاله ليكرس التمرد لدى أبناءه ولدى جميع الذين عرفوه وأحبوه. وقد قيض الله طوال الوقت من يهتم بي كناشيء ويعمل -حسب فهمه واستطاعته- على أن أستمر في العيش والنمو بناءا على الأسس والمفاهيم التي أراد والدي أن أنشأ عليها، كحسن الخلق، التدين والالتزام، والشعور بالمسؤولية تجاه اللآخرين والانهمام بما يصيبهم.

كنت قارئا نهما طوال الوقت، بحكم نشأتي في منزل تكسو جدرانه الكتب المتنوعة المذاهب والاتجاهات والمحاور، وبحكم كون والديّ كلاهما من المثقفين المتعلمين القارئين، وأذكر هنا على سبيل الطرفة أنني ولغيرتي من أختي التي كانت قد قرأت "البؤساء" للكاتب فكتور هوغو ولما تتجاوز الحادية عشرة، أنني عمدت إلى قراءتها في ذلك الوقت وكنت أيضا لم أتجاوز العاشرة. إن هذا الإقبال الشديد على القراءة بحكم النشأة والتشجيع، فتح أبوابا كثيرة للتأمل والتفكير والإطلاع، وكان تعدد وتنوع الاتجاهات الفكرية المتوفرة في مكتبة والدي الخاصة كافيا لعدم احتياجي في الأوقات العصيبة للمخاطرة بجلب كتب مثل: "معالم في الطريق" لسيد قطب، أو كتاب "كيف هدمت الخلافة" أحد كتب حزب التحرير المعتمدة، أو سلسلة كتب "لينيننا" الشيوعية، أو روايات تولستوي الرائعة...الخ. كل ذلك كان في متناول يدي وشكل عاملا مهما في استمرار شعلة التطلع لعالم مختلف عما أقاسيه ويقاسيه أهل بلدي من قمع وإرهاب وتنكيل لم يفرق بين المذنب والبريء، بل أحيانا بين المؤمن وغير المؤمن طالما اشتركا في قول "لا" للظلم والإرهاب والإجرام.

وفي الوقت الذي كان فيه النظام البعثي القمعي في سورية يحاول غسل أدمغة الناشئة، وطمس أي معلم من معالم التمرد والمقاومة والحركية المنبنية على أسس دينية إسلامية بشكل خاص، وأي أساس عقائدي مختلف أو مخالف لأهوائه ويهدد استقراره؛ كانت جهود جميع الذين تشبثوا بالبقاء وانحنوا أمام سيل البروباغاندا الجارف الذي أطلقته أجهزة الإرهاب المخابراتية والحزبية البعثية والطائفية الأسروية؛ كانت جهودهم تنصب في تربية العشرات من الآلاف من اليتامى والثكالى والمساكين، ورعايتهم وتنشئتهم ضمن أجواء جماعية وأنشطة مشتركة دون أن يكون لها طابع سياسي معلن أو واضح رغم أنها كانت حبلى بفكرة العمل الجماعي المنظم طوال الوقت.

وهكذا... وضمن السياق المذكور الذي يحتمل الإثراء بالكثير من التفاصيل التي لا مجال لذكرها في هذه العجالة، من الطبيعي ومن المفروغ منه أن تكون فكرة الانتماء إلى عمل تكتلي منظم ينسجم مع الجذور الثقافية، الدينية والحراكية، أمرا واردا من حيث النتيجة. ...وهكذا كان بالنسبة لي.

<>- كيف بدأ انجذابك إلى الحزب من الناحية العملية؟ أصدقاء؟ صدفة؟ وسائل أخرى؟ وفي أي عام كان ذلك؟

كان ذلك ما بين 1988 و 1989، حيث طرح علي صديق لي يكبرني سنا، الانخراط في دراسة ثقافة ومفاهيم وكتب حزب التحرير بشكل رسمي مع أحد الأشخاص المنتمين تنظيميا بشكل فعلي لحزب التحرير، وكنا قبلها نتدارس أحد كتب الحزب (أنا وهذا الصديق) على أساس اجتهاد شخصي منه، حيث كان هو على صلة بالحزب عن طريق علاقة شخصية وغير تنظيمية أيضاً.

<>- كيف بدأ انجذابك إلى الحزب من الناحية العقلية والنفسية؟ أو بالأحرى، كيف ترى هذا الانجذاب بعد مرور هذه السنوات؟ بدافع القناعة؟ الخلفيةالدينية؟ الوضع السياسي؟ أو أية أسباب أخرى؟

كان الاطلاع على فكر الحزب ومفاهيمه عن طريق الصديق الذي ذكرته سابقا هو البوابة الرئيسية للاهتمام، وكان لما يتمتع به هذا الصديق من قوة في الحجة وسعة الإطلاع وجاذبية كارزمية أيضا دافعا إضافياً. أما الناحية العقلية (الفكرية) فإن الأفكار التأسيسية للحزب ما هي إلا استمرار للبناء على المعتقدات والمفاهيم التي يحملها أي فرد ذو نشأة أو خلفية ثقافية إسلامية... الأمر الذي ينطبق على جميع المسلمين ابتداءا، أما من الناحية النفسية فلا شك أن الشعور بالانتماء إلى كيان أكبر وتلبية الحاجة الغرائزية للتواجد ضمن مجموعة متناغمة و متعاونة من الأفراد يؤطرها نسق فكري واحد؛ هو الدافع النفسي وراء الانجذاب إلى فكرة الانخراط في حزب معين، ولا أغفل عامل القطيع في ذلك أيضا.

وأود أن أذكر هنا هو أن عملية التسويق لهذا الحزب كانت ذات أثر كبير في التشجيع على الانضمام له، حيث صوّر لي الوضع على أن الأمر هو مسألة وقت فقط، وما أن يطلق البيان رقم "1" من الإذاعة مابين ليلة و وضحاها، معلنا نجاح الحزب في الانقلاب ومستهلا بداية دولة الخلافة الاسلامية التي طال انتظارها، فإن الحزب على أتم الجهوزية لذلك، بل لديه كادر مستعد لمباشرة مهامه من الوزراء في جميع الأصعدة في اليوم ذاته.

وأظن أن جميع الدوافع التي ذكرتِها كان لها دور بدرجة معينة، وتكاتفت كل هذه الدوافع لتوصل إلى النتيجة النهائية وهي قراري بمباشرة الاحتكاك مع الحزب كـ "دارس" بداية، ومن ثم احتمال الاستمرار كحزبي إن عرض الأمر علي ولاقى قبولا لدي حال حصوله، وهو مالم يتم.

<>- لماذا هذا الحزب دون غيره؟

لأسباب مهمة منها أن احتمال الانخراط في تنظيم غير إسلامي أو غير مبني على أسس إسلامية هو أمر غير وارد بطبيعة الحال والنشأة، وهذا يخرج من الحسبان جميع التوجهات العلمانية، الاشتراكية أو الشيوعية، لأنها ترفض التدين (رغم أنها عقائدية في كثير من الأحيان) من حيث مبادئها ومنطلقاتها؛ مما يبقي في المعادلة الحركات ذات التوجهات الإسلامية الثورية الراديكالية، الاجتماعية التربوية والحركية السياسية؛ وللحقيقة فقد كان لي اطلاع على الاتجاهات الثلاثة الآنفة الذكر وقد أفادتني أدبياتهم وطروحاتهم النظرية بمقدار كبير وربما دفعتني أيضا (رغم أن ما أقوله قد يثير الاستغراب) لاستطلاع فكر حزب التحرير وتلمس مكامن القوة فيه. وأنا أعتقد بناءا على خبرتي السابقة مع حزب التحرير أن البنية الفكرية والسياسية الحزبية استطاعت أن تثبت قوتها وقدرتها، وفي مواضع متنوعة مرونتها وقدرتها العالية على الاجتهاد المنفتح، بل ربما تفوّقها لدى حزب التحرير من الناحية السياسية على بقية الحركات الأخرى، وأستطيع القول أن حزب التحرير من الناحية الهيكلية كحزب سياسي ومن الناحية العملية كصاحب مشروع تغيير سياسي واجتماعي، له كيان واضح ومتبلور يمكن التعامل معه ووضعه تحت المجهر ودراسته على عكس أقوى المنافسين له (من وجهة نظري) جماعة الإخوان المسلمين. فلحزب التحرير جميع مقومات أي حزب سياسي ذو مشروع واضح بأجندة واضحة، وبمشروع واضح مبني على أسس نظرية موجودة في كتب الحزب القديمة والحديثة أو المتبناة، بغض النظر على موافقتي أو عدمها على هذه الأسس النظرية أو تلك، أو هذه المفاهيم التأسيسية أو تلك. وأود ألا يفهم من كلامي التقليل من شأن جهة على حساب جهة أخرى.