Tuesday, December 25, 2007

الانتماء... أيضا

جاءت هذه المراسلة كمتابعة في نفس سلسلة المراسلات التي دفعتني لنشر التدوينة الأخيرة، وأجد أنه من الواجب أن تذكر المرأة التي كانت الجندي المجهول نوعا ما إلى جانب والدي... والدتي! تحية وتقدير وامتنان للسيدة المجاهدة نهلة القزق.

أيضا تجدون نص المراسلة التي أرد عليها في ما يلي الرد. كما أصرح أنني خطر لي أن أخفف من هجومي اللفظي على بعض الشخصيات الواردة في ثنايا الكلام، فقد خفت حدة غضبي (يبدو هذا بعد أن عبرت عنه) وأشعر أنه كان عليّ أن أكون أكثر هدوءاً، إلا أن أمانة النقل أوجبت عدم تغيير النص، فعذرا سلفاً عن النعوت والصفات، وأبقي أحكامي على التصرفات قائمة، رغم إمكانية كوني مخطئا فهذا من حقي.

***

سلام جديد لا عنفي عليكم،

أما بالنسبة لوالدتي... فلا أدري إن كان يمكنني الحكم على نقلاتها الفكرية إن صح التعبير... ماأعلمه هو أنها فعلا عبرت عدة مراحل ونقلات، وهي بالمناسبة كانت، قبل أن تكون الشخصية الثانية بعد منيرة قبيسي (إن صح ذلك) تنشط على مستوى الطالبات والطلبة في المرحلة الثانوية وكانت من الشخصيات البارزة حين ذاك، وأذكر أنني شاهدت صورة لها مع جمال عبد الناصر ضمن وفد طلابي في تلك الفترة وكانت حاسرة الرأس... إلا أنها قررت ارتداء غطاء الرأس قرب انتهاء السنة الأخيرة في مرحلة الدراسة الثانوية، وأظن أنها بعد ذلك تعرفت إلى منيرة القبيسي ونشطت معها في الوقت ذاته الذي كانت به تحتل موقعا مميزا في اتحاد الطلبة لقدراتها الخطابية الأدبية العالية.

نهلة القزق هي ابنة عبد العال سليم القزق (رحمه الله)، الرجل الفلسطيني العصامي والمقاول الناجح الذي اختار أن يلجأ إلى العمل الفدائي المسلح في فلسطين وبالذات في مدينته حيفا (حيث ما تزال عقاراته هناك بانتظار من يستردها) وقد احتك هناك بالشيخ نمر الخطيب، وصادف الشيخ تقي الدين النبهاني (الذي اجتمعتُ بحفيدته -أو ابنته- التي كانت صديقة لوالدتي وأدخلتني عالم اللغة الانكليزية تحضيرا للمرحلة الإعدادية) ومن ثم اضطر جدي إلى الهرب من حيفا قبل أو أثناء فترة صدور وعد بلفور، وتطويب فلسطين باسم اليهود بجريمة قانونية تاريخية سوف يستمر العالم بدفع ثمنها إلى أن ترجع الحقوق إلى أصحابها. فلسطين والقضية الفلسطينية لم تغادرا وجدان جدي و حمّلهما لأبنائه ولابنته البكر (والدتي) وأخيها الذي يصغرها (سليم) بشكل أساسي، سليم هذا الذي نشأ على النشاط والحماس لأجل القضية، دارت به الأيام والتطور الطبيعي لشخص مثله واجتمع مع والدي في السجن ذاته بعد أن اقتحمت الدبابات المسجد الأموي في عهد أمين الحافظ، وهناك شاهد والدي فتاة تأتي لزيارة أخيها وتجلب له كتبا ليقرأها... تلك كانت بداية قصة نهلة القزق و عبد الودود يوسف.

في الفترة ما بين ارتداء نهلة غطاء الرأس و لقائها بوالدي نشأ توجه نحو "الالتزام" في عائلة عبد العال سليم القزق (جدي) الذي كان لم يضغط على عائلته سابقا فيما يختص المظاهر الإسلامية رغم أنه كان مؤمنا متمسكا وممارسا على الطريقة الشاذلية، واستمر هذا التوجه متصاحبا مع مواهب واهتمامات والدتي في مجال النشاط العام ومع اللون الجديد الذي أدخلته تجارب والدي إلى المعادلة،و هنا حصل الاحتكاك بالتيار السلفي الألباني وفكر جودت سعيد في الوقت ذاته، ومما يجدر ذكره هنا أن السيدة ليلى سعيد (رحمها الله) ووالدتي ضمن مجموعة من النساء القلائل في تلك الفترة، كن هن اللواتي ارتدين "الجلباب" لأول مرة في سورية (على حد تعبيرهن) والذي انتشر تدريجيا ضمن أسر جودت سعيد و عبد الودود يوسف، ومن ثم انتشاره الأوسع في دمشق وبقية أرجاء البلد.

عبد الودود كما ذكرت لم يكن تابع تنظيميا و حتى فكريا لأحد، رغم تأثره بمعظم من كان حوله من التيارات والشخصيات، وممن لا يغفل أثرهم كان "سيد قطب" وفكرة الحاكمية ومؤلفه المشهور "في ظلال القرآن،" وعلى ما أعتقد أن والدي أراد أن يقوم بنشر فكره عن ضرورة مقاومة الظلم والواقع المتخلف للمسلمين سياسيا اجتماعيا وعلى كافة الصعد، بالطريقة ذاتها التي قام بها "سيد" في "ظلاله" فقام بكتابة (مايسمى، على حد تعبير السيد حامد) "تفسير المؤمنين،" ولم يكن التركيز في ذهن والدي (على ما أعتقد) أثناء كتابته للتفسير، على مراعاة التفسير الحرفي، أو السلامة من الشبهات العقيدية التي يتسلى بها بعض "المتفارغين" كـ "علي موزة" و "علي زرزور" عندما تهالكوا على انتقاد "تفسير المؤمنين" في كتبهم و منشوراتهم من مثل "حضارة الإسلام."

كان تركيزه منصبا على نشر فكرته الخاصة حول الجهاد والمقاومة، والتي لم يكن ليستطيع تمريرها في كتاب مستقل ضمن أجواء سيطرة حزب البعث والنظام الطائفي "التقدمي" إلا من خلال حيلة بثها عبر تفسير للمصحف الكريم ينتشر بين الناس البسطاء بلغة قريبة و مفهومه، فحصل على السماح بالطباعة والنشر. إلا أن القيادة القومية (أو القطرية) لحزب البعث تنبهت لهذا الأمر و أوصت ضمن تقرير (وصلت نسخة منه لوالدي، واطلعت عليه والدتي) أصدرته بمحاربة انتشار التفسير وحث رجال الدين "المرضي عنهم" على مهاجمته والنيل منه على المنابر، وهنا جاء دور "البوطي"

عبد الودود، أقر أنه يجب إدخال التغييرات و التصحيحات المحقة في التفسير كشرط أساسي إن كان التفسير سينشر مرة ثانية، وهذا ما صرح به والدي لوالدتي عندما كنا نزوره في سجن قلعة دمشق وعبر عن رغبته الملحة في ذلك... "لا تنشروا التفسير أو تعيدوا طباعته قبل إدخال التعديلات والتصحيحات"

فترة بقاء عبد الودود في سجن القلعة لم تطل، فبعد أن كان أتي به من "كراكون الشيخ حسن" حيث تم إجراء التحقيق الأولي معه هو وبقية أفراد الأسرة والأصدقاء الذين ذكرتهم سابقا، تم استدعاؤه للتحقيق مرة أخرى، لكن هذه المرة كان مصيره الاختفاء حتى يومنا هذا! وأنا كنت من شاهده للمرة الأخيرة عندما سمح لي حراس سجن القلعة بالدخول بعد طول رجاء و تذلل من العشرات من النساء اللواتي أنهكهن الانتظار ذلك اليوم، أدخلت له بعض الملابس... والأشواق... الأخيرة.

ما أزال أحتفظ بملخصات والدي للكتب التي كان يدرسها مع جودت، والدروس و المحاضرات وكتب مالك بن نبي، كما كان كتاب "كيف هدمت الخلافة" أحد عشرات المئات من الكتب التي تركها والدي وراءه، كما كان كتب مثل "كيف انتصر الفيتكونغ" و رواية "كيف سقينا الفولاذ" لـ "ليو تولستوي" و سلسلة كتب "لينيننا" ورواية "الأم" لمكسيم غوركي، وفتاوى ابن تيمية.... كتب عباس محمود العقاد مثل "عبقرية عمر" وكتاب "معالم في الطريق" و "في ظلال القرآن" لقطب، والترغيب و الترهيب للنووي، وكتب شوقي أبو خليل و المودودي و ناصرالدين الأباني، ومصطفى محمود و و .... الخ

وأنا، ابن كل ما سبق، ولم أذكر العديد من التفاصيل بالمناسبة!

الآن...

ما هو الغريب يا سيد حامد؟
أن يكون ابن نهلة القزق " متزوج ويعيش في التشيك وهو من الإسلاميين الجدد ((اللا عنفيين))" على حد تعبيرك، هذا غريب!؟ ولماذا هو غريب؟
ولماذا لم تعمل أسرتك الكريمة على إعادة الصلات بعد أن "انقطعت صلة هذا التيار بأسرتنا بعد أن منعت الدروس التي كانوا ينظمونها أواسط الستينات!!"
وهل "زوجها" نكرة كي لا يذكر اسمه؟

أم أن الناس فقط يبرعون في الكلام على الآخرين!؟

وأيضاً...

هذه هي الفقرة "المخفية" ما قبل "ثانيا" في رسالة سابقة لك سيد حامد:

السؤال الأول
هو استغراب هذا الشخص لأن يكون هناك خلاف سابق بين همام ود.محمد العمار رغم أنه يجدهما جد متشابهين
أنا قلت إنه في غياب حامد فإن الخلافات البسيطة تطفو على السطح بينما تختفي بظهور خصم مشترك
هل لي أن أعلم لم أخفيتها؟ ومن هو هذا "الشخص" الذي تتناول و إياه شؤون وأعضاء المجموعة!؟ وهل هناك مشكلة إن كنت ومحمد العمار متشابهين، أو على خلاف؟ وما المعنى الذي تحاول إيصاله هنا!؟ وأرجو منك يا سيد حامد أن تتواضع قليلا... فعلى ما أظن أن محمد العمار، ويقين عن نفسي، نعتبر حضرتك "مهم" و "خصم" بقدر ما تمثل أفكارك موضوعا يستحق النقاش، وليس ذلك خصومة شخصية كما توحي كلماتك! بالله عليك أنت فعلا تصدق ما قلته!؟ وعندما تراجع بقلب و ذهن مفتوحين مراسلاتنا السابقة ستجد دلائل كثيرة على خطأ نظرية الخصومة المبتذلة (أقل ما يقال بها) التي تفضلت بها هنا... عجيب!

هل من الإخلاص أن يقوم "البوطي" مع احترامي لبعض ما يتفضل به بالـ "الردح" على منابر المساجد، في الوقت الذي ينسى أن يقول كلمة حق لدى سلطان جائر بل مجرم بحق الشعب الذي يتنزل عليه البوطي ببركاته من فوق المنبر!؟ أم من الإخلاص أن تطرد طالبة علم شرعي من محاضرتك في كلية الشريعة وتهينها أمام زملائها، بينما تتبجح بفحولتك علنا في مناسبات مختلفة، كما فعل "التافه" البغا!؟

شتان ما بين ما يقوله جودت (في السر والعلن) بحق الأنظمة العربية والشعوب العربية، وبين الهاربين من متاحف التاريخ الخائفين على مراكزهم بالدرجة الأولى!

وكيف تقارن يا فهلوي زمانك بين من كان ترتيبها الثانية على القطر في الثانوية الشرعية، وبين من لايستطيع قراءة القرآن من البعثيين المدحوشين في كلية الشريعة!؟

"البغا" يستطيع فرد شخصيته "المجعلكة" على من يعلم أنه لن يتسبب له بالأذية، كابنة "المجرم عبد الودود يوسف" (كما سمته كتب البعثيين، رغم اعترافهم أنه لم يمارس العمل العسكري أو العنف،) نعم... انتفشت أسارير هذا التافه... وامتشق حسامه ولسانه، وانطلق لنصرة الله و الدين... وأعلنها حربا لا هوادة بها... على من!! ..... على هذه الفتاة.

أنا واقعي سيد حامد... وأحترم فقط من تطابق أفكاره تصرفاته وادعاءاته، هؤلاء "رجال دين" و في ديننا ليس هذا الصنف معترف به، المعترف بهم هم "العلماء العاملون" كالعز بن عبد السلام الذي تصدى للماليك وظلمهم.

نحن يا سيد حامد، تركنا لنخوض في الحياة بكامل حريتنا، هذا ما فعله لنا آباؤنا إضافة لما زرعوه فينا، وعندما كنتُ أضع المسواك في فمي وأتنقل منتعلا "الشالوخ" و مرتديا الدشداشة وبعض الزغب يتناثر على وجهي، لم ترتعد أمي، لكنها ارتعدت عندما كنت أفكر بالذهاب إلى السعودية لأدرس الشريعة هناك أو عندما كانت تداعب مخيلتي المراهقة فكرة الذهاب للقتال في أفغانستان! فأعلنت سطوتها عليّ وشكرا لها أن قد فعلت. ثم لم ترتعد عندما تحول منزلنا إلى ساحة صراع فكري بين أفكار حزب التحرير والفكر التقليدي السلفي، ثم لم ترتعد عندما شاهدت الابن يعود إلى مشارب والده ويزور صديق والده "جودت" بل صعدت معه الجبل هناك حيث "خميس جودت" كل شهر. وأعانها الله عندما اختفى ولدها قرابة العام ثم عاد صبيحة ذات يوم شتوي.

وعسى أن يجعل الله خواتيم أعمالنا خيرا بفضل منه لا بما اكتسبت أيدينا.


تحية ملؤها السلام...
همّام

***

فيما يلي النص الذي حفزني للرد...

السلام عليكم ورحمة الله

لعل ما أضيفه ليس جديدا ولكنه في إطار قراءة تطور فكر بعض الشخصيات المحورية فكريا بشكل عام
عندما سألت والدي فيما إذا كانت الدكتورة نهلة من دفعته... قال بأنها كانت زميلة لعمتي في الكلية...
[الوالد]ما سبب السؤال...
[الابن]أنا تعرفت على ابنها...
[الوالد]كيف هي؟...
[الابن]أنا لا أعرف عنها شيئا ولكن ابنها متزوج ويعيش في التشيك وهو من الإسلاميين الجدد ((اللا عنفيين))...
[الوالد]هذا غريب فالدكتورة نهلة كانت الشخصية الثانية في هيكلية التبليغ النسائي بعد منيرة قبيسي التي عرف هذا التيار فيما بعد باسمها... وانقطعت صلة هذا التيار بأسرتنا بعد أن منعت الدروس التي كانوا ينظمونها أواسط الستينات!!
أما زوجها فقد انقطعت أخباره بعد الفترة الأولى من التحقيق رغم أنه لم يكن على علاقة بالإخوان وقد شهدت السنوات الأخيرة نقدا شديدا من مجلة حضارة الإسلام التابعة للإخوان لتفسيره المسمى تفسير المؤمنون
***
ومن مراسلة أخرى ما يلي...
ثالثا- مسألة البوطي والبغا وحتى جودت سعيد....إلخ
أعتقد أنه من الأفضل لنا جميعا أن نكون واقعيين ونحترم ولو ضمنيا اجتهاد الطرف الآخر المختلف قليلا أو كثيرا في ظل قرائن تشير إلى أنه مخلص في غايته
أي مطلع على التيار السلفي في الشام حتى أواسط التسعينات كان يعلم رؤية السلفية للدكتور البوطي المنافح عن المذاهب والأشاعرة في وجه خطر يهدد بجعل الأمة مليار مجتهد.. وأنا لم أكن أرى في هذا أي مشكلة حتى 97-98 عندما بدأت بالاحتكاك بمفاهيم ناتجة عن المنهج السلفي وبعض روايات أؤلئك الذين خرجوا من السجون عن أفكار السلفيين الإخوانيين في السبعينات والتي يبدو معها رضاع الكبير أمرا بسيطا.... هنا ألتمس قليلا من العذر للدكتور البوطي في مهاجمته لكل ما تفوح منه رائحة السلفية
وأما كونه بوقا للسلطة فقد دار نقاش طويل هنا بهذا الشأن بدأته رزان ولكنني أكتفي بدعوة الجميع مقارنة هذا الاتهام باتهام موجه لجودت وخالص ومن لف لفهم بأنهم أبواق للعولمة والتغريب؟
في النهاية خسر البوطي جولة شد الحبل مع السلفية ليس بفضل بنيتها بل لأنه دفعها من الألباني إلى الدكتور عبد الله عزام في كتابه الجهاد أما موضوع البغا فنفس الأمر ولكن صديقي همام:: عندما دخلت الميكانيك عام 1990 كان الدخول إلى كلية الشريعة أصعب من كلية الرياضيات لطالب العلمي ولكنه متاح لمجرد كونك حزبي ناجح؟؟ما هو المعيار الذي تريد من البغا وأمثاله تطبيقه لكي يحاول أن يؤخر وجود قاض شرعي في بلدتي منذ أعوام لا يعرف كيف يقرأ القرآن؟

Friday, December 07, 2007

فلنتكلم الآن عن الانتماء

أشارك ببعض الأفكار والكتابات في مجموعة للمراسلة من مجموعات غوغل، تدعى المجموعة "نقاش مفتوح حول الفكر والإسلام،" وكثيرا ما يستغل أحدنا مراسلة من المراسلات لتمرير بعض الأفكار والمشاعر التي قد لا تكون على صلة كاملة بها، إلا أن هذا لا يعني عدم وجود تلك الصلة تماما.

فيما يلي نص مراسلة كنت قد عبّرت بها عن بعض ما اعتلج في صدري عند قراءتي لما كتبه أخ لنا في هذه المجموعة، وسأضع نص مساهمته في نهاية هذه التدوينة.

***

فلنتكلم الآن عن الانتماء


وعليكم السلام،

هذا قد لا يكون بالضرورة إجابة عن تساؤلات حامد، إنما هو ربما لمس من حيث لا يدري وترا حساسا لدي وعسى أن تتمتع بالروية والصبر عزيزي حامد!


والدي هو عبد الودود يوسف (كاتب إسلامي التوجه، ماجستير تاريخ من جامعة عين شمس، القاهرة) ... وأظن أن البعض ما زال يذكر من كان هذا الشخص و ما كان اتجاهه، إلا أنني ربما سأوضح قليلا ما كان عليه.

نشأ والدي في مدينة حمص في بيئة متدينة تقليدية إلا أن أسرته (جده من والده تحديدا) كانت من الأسر التي يحترمها الناس بسبب التزامها وورعها، ثم أثناء دراسته احتك بالفكر الإخواني وعلى رأسه مصطفى السباعي. ولا أدري بالضبط متى كان احتكاكه بطرح ناصر الين الألباني وطرح جودت سعيد، وهل كان ذلك قبل أو بعد انتقاله إلى مدينة دمشق. السمة العامة لوالدي كانت أنه شديد النشاط و الحماسة لدينه والمسلمين، و تذكر والدتي (نهلة عبد العال القزق، طبيبة) التي كانت ساعده الأيمن دعويا، تذكر بوضوح أنه لم يكن تابعا لأحد تنظيميا أو سياسيا، إلا أنه كان قادرا على التواصل مع الجميع. كان منزلنا على ما أذكر لا يكاد يخلو من الأنشطة الدعوية الإسلامية كشرح الحديث النبوي و تعليم قراءة القرآن والفقه ... الخ، وتذكر والدتي كيف زار مالك بن نبي هذا البيت الصغير في زيارته الوحيدة إلى سورية.

في بيتنا غرفتان على أحد جدران كل منهما رفوف تحتشد الكتب من جميع الاتجاهات فيها... الأديان والفلسفات والتاريخ والروايات.

إضافة إلى رؤية والدي.. والدتي.. خالتي.. جدي.. وصديقة والدتي، يقتادهم المخابرات صبيحة ذلك اليوم إلى المجهول، و من ثم عودة الجميع (ما عدا والدي) بعد فترة لا أذكر بالضبط كم طالت، ربما وصلت إلى الأسبوعين، وفي هذه الأثناء.. تم مطاردة واقتناص من بقي من الرجال في عائلتي فهرب أحد أعمامي وما يزال خارج البلد، العم الثاني كان في العربية السعودية إلا أنه عندما قرر العودة بعد 17 عاما من الغربة، كان له نصيب أيضا فاستضيف لمدة سنتين ليخرج إنسانا غير متوازن تماما حسب ظني، زوج إحدى عماتي أخلي سبيله بعد اثني عشر عاما لأنه كان قد حكم عامين!! وما يزال زوج عمة أخرى مجهول المصير كما هو مصير والدي.

كنت في العاشرة عندما شعرت بالرعب لرؤية والدي والأصفاد في يديه، فبدأت أجهش بالبكاء.. ولم يف والدي حتى الآن بالوعد الذي قطعه لي و هو ينظر إلي حينها قائلا: "لا تخاف بابا أنا راجع عن قريب" ... ومنذ ذلك اليوم... ما زلت أجهش، وما تزال عائلتي تجهش، وما يزال الآلاف يجهشون.

فيما بعد.. ولأنني أساساً أحب الاطلاع ولأنني قد تمت قولبتي وبشكل قاس كشخص يحمل همّ المسلمين والانتماء الإسلامي، وجدتني أسير على الخطوات ذاتها، فعرفت السلفية الألبانية و تماهيت بها لفترة، وتعرفت إلى الفكر الإخواني السياسي و تأثرت به رغم أنني لم أنخرط فيه بشكل منظم، وقدوتي في هذا والدي الذي لم يحصر نفسه في أي من الاتجاهات السائدة حينها، ومن ثم تعرفت إلى تقي الدين النبهاني ونظريته عبر حزبه و كتبه... وأيضا تماهيت به لفترة بشدة وحماسة وتعمق أيضا، إلا أنني و كما هي العادة لم أعط قيادي له.. ودخل جودت سعيد ومحمد شحرور وعلي شريعتي ومالك بن نبي مجال رؤيتي في الفترة التي كانت أواصري مع حزب التحرير تضعف لعوامل فكرية وأمنية، وهكذا إلى أن عمل منهج اللاعنف ونقد العقل وفتح باب الاجتهاد (أو تحطيمه برأي البعض) على يد محمد شحرور إلى إيصالي إلى نقطة القطيعة المعرفية مع منهج الفكر الإسلامي التقليدي، هذه القطيعة لم تكن تبرؤاً من الانتماء بقدر ما كانت ضرورة فكرية منهجية كي أستطيع محاولة رؤية دائرتي المعرفية الثقافية من خارجها.

منذ ذلك اليوم، أصبحت أنتمي لنفسي، نفسي التي هي مسلمة أساساً إنما أيضا هي خاصتي بالدرجة الأولى. وتهاوت الأصنام البشرية واحدا تلو الآخر، خصوصا أن قراءتي النهمة في علم النفس والتحليل النفسي كانت تريني لدرجة معينة من الوضوح كيف أننا جميعا محكومون بعدد كبير من الاشتراطات الواعية وغير الواعية، والتي تؤثر حتى في طريقة تناولنا لعوالم السياسة والثقافة والفكر والدين. ولأنني أعلم يقينا أنني محكوم بكل ما ذكرته سابقا، وأن ما أظنه حقيقة حقيقية هو رؤيتي الشديدة الخصوصية وأنني أعيش في الكون الذي أشكله لنفسي، فكيف أعطي قيادي لأي كائن ضعيف آخر..

وأفلح سحر جودت سعيد وعلي شريعتي و محمد شحرور وبيير داكو وهرمان هسه وليو تولستوي و النبي محمد وعيسى و موسى والبخاري و مسلم و الشافعي وتوماس أديسون وألبرت أينشتين و الفارابي و الجاحظ وجارنا الغشاش في حارتنا والأستاذ الظالم في مدرستنا والمشرف المنحاز في كليتنا، والكثير الكثير الذين لا أذكرهم... أفلح كل من كان في كوني الخاص في دفعي بعيدا عنهم... لأقول لهم: شكرا لكم... لقد وصلت الرسالة...لا انتماء إلى أحد منكم...... لا إله... إلا الله

وأنا الآن أصارع نفسي وأحاول التقرب من الله، وأظن أنني على حق و أخاف أن أكون من الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا، أقبل على الله و أفتر عنه أخاف منه و أغضب منه وأحبه وألجأ إليه و أيأس منه وأترجاه... تحتشد في نفسي المتناقضات جميعها مع أحلامي و ضعفي ومطباتي ومثالبي.

بعد هذا كله أتساءل...

ما لذي يمكن أن تعنيه جملة: "على الشاب أن يكون أكثر وضوحا وأن واجبه الديني يقتضي ذلك" لا أدري لم أحس أنه يشع منها معنى بدائي!!

والوضوح كيف يكون ؟ لا أدري؟

هل الانتماء الديني له لباس خاص؟ لون؟ جنسية؟ طريقة معينة في التحية؟ ماذا؟...
من الذي له الحق... والقدرة! أن يحدد كيف يكون الانتماء و كيف يكون الوضوح؟

البوطي لي موقف منه بسبب أنه كان وربما ما يزال بوق للسلطة، وسبب آخر شخصي أنه كان يهاجم "تفسير المؤمنين" و كاتبه (والدي) على المنابر.

مصطفى البغا قام بطرد أختي (التي كانت قد حققت المرتبة الثانية على القطر في الثانوية الشرعية) من قاعة المحاضرات، لأن له رأي خاص في غطاء رأسها وشكل لباسها... هذا التافه... قمت أنا ووالدتي بالمسارعة لمنزل زوجته الأولى (أعتقد أنه متزوج من 3) عندما كانت تشتكي من ألم ما.. هذا هو الموقف الحقيقي.. الموقف المنتمي.. موقف والدتي.. وليس موقف من طرد ابنتها.

أنا بكل بساطة كنت أدفع ثمن الانتماء، منذ استطعت أن أعي ما يجري حولي، وعلمني كل المتشدقون البارعون في الحروب الكلامية، الذين لم يضطرهم "انتماؤهم" للمخاطرة بمواقعهم أن أقول لهم... أغلقوا أفواهكم.. أنا الذي أعطي انتمائي شكله لا أنتم يا باعة الكلام.

هذه ردة فعل سجين سياسي سابق إبن سجين وسجينة سياسيين سابقين

فلنتكلم الآن عن الانتماء...

تحية ملؤها السلام...

همّام

***

فيما يلي مراسلة حامد التي دفعتني لكتابة ما سبق


قراءة في واقع تجديد الفكر الإسلامي 7

السلام عليكم ورحمة الله

يفترض بهذه أن تكون الجزء السابع من سلسلة مقالاتي وبشكل أدق كنت أتوقع ألا أنشرها ولكنني قمت بتعديل سريع عليها وأرسلتها

مشكلة الانتماء في صياغة التوجه الإسلامي

عندما كنت طفلا صغيرا بداية الثمانينات كان يعمل مع أحد أقاربي عائلة غير عربية لديها ابن شاب يدرس شريعة لا أدري كم يفصلني عنه عمرا ولكننا كنا نحبه ربما لأنه الوحيد الذي يتكلم العربية رغم قلة زيارته لعائلته
ما رسخ في ذهني حوار بينه وبين قريبي ((كلاهما إسلاميين)) لا أدري مضمون الحوار ولكنني أدركت ارتباك الشاب وسط اتهامات ما فهمته منها أن على الشاب أن يكون أكثر وضوحا وأن واجبه الديني يقتضي ذلك
مضت الأيام وغادرت الأسرة ولم أعلم عنها شيئا منذ ذلك الحين وذهب قريبي مع من ذهبوا دون عودة.. وعشت الجزء المتبقي من الثمانينات إسلامي التوجه والمظهر دون مضمون حقيقي بغياب الجزء الفاعل من أفراد العائلة
إلى أن جاءت بداية التسعينات بانفتاح ديني وكان من الطبيعي بالنسبة لنشأتي الأصولية أن أفضل السلفية على تيار الدكتور البوطي الذي كان في أوجه... واعتبر البوطي خصما ومن باب أولى كفتارو وكل ما يمت للسلطة بصلة رغم أن السلفية التي يقودها في دمشق ناصر الدين الألباني "رغم ابتعاده إلى الأردن" لم تكن مسيسة ولم أحتك بالقراءات السياسية للسلفية وسواهم إلا مع ظهور كتاب الجهاد للدكتور البوطي وردود الفعل الغاضبة عليه التي رأيتها في أوضح صورها بتفنيد الدكتور مصطفى البغا لها الذي تزامن تفسيره "ربما بمحض الصدفة" لسورتي الأنعام والأنفال مع صدور كتاب الجهاد طبعا أكمل هذا بعض إجابات الشيخ عبد القادر أرناؤوط الذي أدركت بوضوح ما يميزه عن الشيخ ناصر وضياع منهجه بين السلطة التي بدأت تراه عدوا وطلابه الذين يتعلمون عليه ويدينون بالولاء للشيخ ناصر
تلى ذلك تقلب أستاذي نواف تكروري وهو من مبعدي مرج الزهور بين الدكتور وهبة الزحيلي وأخيه الدكتور محمد للإشراف على رسالة الدكتوراه بعنوان العلاقات العامة بين دار الحرب ودار الإسلام
في هذه الفترة بدأ احتكاكي بأفكار جودت سعيد واللا عنف ربما بفضل حسن الكردي وتزايد اللقاءات العامة التي جمعت جودت سعيد والبوطي
وبما أن عائلتي تذكر الكثير من الجدل العقيم بين محمد الجراح والدكتور مصطفى السباعي كصديقين للعائلة حول العروبة والإسلام وتحديد كل منهما.... كان واضحا بالنسبة لي تخبط الإخوان كفكر إسلامي سائد في إعطاء موقف واضح من قضية القومية

كل هذه الأمور دفعتني لطرح تساؤل حول دوافع الأشخاص ضمن المتاح وكيف ترسم هذه الدوافع قراءتهم وحتى تفسيرهم للإسلام
وساهم تعرفي على بعض لاعنفيي داريا من جهة وتعميق الصلة بالتيار الناصري من جهة أخرى في توضيح هذه التساؤلات في ذهني ولا أستطيع القول إنني تمكنت من التوصل لإجابات خصوصا وأن طرح مثل هذه الأمور قد يحمل قدرا لا يستهان به من الإساءة للبعض وقليلون جدا هم الذين حاورتهم بصراحة في هذا الموضوع

لفت صديق بعثي نظري إلى أن التيارات الدينية في سورية على اختلافها يقودها أشخاص ليسوا عربا لأن الحكومة لا يمكن أن تسمح بذلك من وجهة نظره... ولكنني أعتقد أن الأمر أعقد من ذلك بكثير
أحمد كفتارو والبوطي والألباني والأرناؤوطان والبغا وحتى جودت سعيد وخالص جلبي إن اعتبرناهما في هذا الإطار.. جميع هؤلاء من الطبيعي أن يشعروا بأزمة في الانتماء لأي تيار سياسي وسط طغيان القومية وفكرة العروبة وتلبس حتى التيارات الإسلامية السياسية بشيء منها
وكأفراد فاعلين نشأوا في بيئة متدينة أو محافظة فإن كلا منهم وجد إطار انتماء واسع أقنع نفسه به ثم تراكمت الفكرة إلى أن أصبحت مقنعة ولكنها حتما بالنسبة للجميع باستثناء اللاعنفيين لا تعنى بالسياسة إلا من باب تسيير الأمور مرحليا نحو الإنتماء الأوسع الذي يفترضه الشخص
تجد ذلك بوضوح في مقارنة بين البوطي في رسالته حقائق عن نشأة القومية التي يحلق فيها كما في كبرى اليقينيات وكتابه الجهاد الذي تشعر أنه يحاول إقناعك بما هو ليس مقتنعا به
بينما رأى آخرون أن تحقيق الإنتماء الإسلامي غير ممكن فاستبدلوه بانتماء إنساني كانت بوادره واضحة في الفكر الأوربي
وبين هذا وذاك اندفع ذوي الأصول الأوربية نحو انتماء إسلامي أصولي نظري كشرط لا بد منه لبناء انتماء إسلامي واقعي وأظن أن بيئتهم ودوافعهم التي جعلت من ثلاثتهم علماء الحديث المسلمين في النصف الثاني من القرن العشرين هي نفس الدوافع التي جعلت من نوابغ بلاد السند وما وراء النهر معظم علماء الحديث في عصر التدوين ولا يشذ عن ذلك الإمام أحمد رغم كونه شيباني إلا أنه ولد وعاش طفولته في شيراز

لعل هذه مجرد تساؤلات أطرحها دون أجوبة واضحة لمحاولة تلمس الخطوة التالية

حامد