Friday, December 07, 2007

فلنتكلم الآن عن الانتماء

أشارك ببعض الأفكار والكتابات في مجموعة للمراسلة من مجموعات غوغل، تدعى المجموعة "نقاش مفتوح حول الفكر والإسلام،" وكثيرا ما يستغل أحدنا مراسلة من المراسلات لتمرير بعض الأفكار والمشاعر التي قد لا تكون على صلة كاملة بها، إلا أن هذا لا يعني عدم وجود تلك الصلة تماما.

فيما يلي نص مراسلة كنت قد عبّرت بها عن بعض ما اعتلج في صدري عند قراءتي لما كتبه أخ لنا في هذه المجموعة، وسأضع نص مساهمته في نهاية هذه التدوينة.

***

فلنتكلم الآن عن الانتماء


وعليكم السلام،

هذا قد لا يكون بالضرورة إجابة عن تساؤلات حامد، إنما هو ربما لمس من حيث لا يدري وترا حساسا لدي وعسى أن تتمتع بالروية والصبر عزيزي حامد!


والدي هو عبد الودود يوسف (كاتب إسلامي التوجه، ماجستير تاريخ من جامعة عين شمس، القاهرة) ... وأظن أن البعض ما زال يذكر من كان هذا الشخص و ما كان اتجاهه، إلا أنني ربما سأوضح قليلا ما كان عليه.

نشأ والدي في مدينة حمص في بيئة متدينة تقليدية إلا أن أسرته (جده من والده تحديدا) كانت من الأسر التي يحترمها الناس بسبب التزامها وورعها، ثم أثناء دراسته احتك بالفكر الإخواني وعلى رأسه مصطفى السباعي. ولا أدري بالضبط متى كان احتكاكه بطرح ناصر الين الألباني وطرح جودت سعيد، وهل كان ذلك قبل أو بعد انتقاله إلى مدينة دمشق. السمة العامة لوالدي كانت أنه شديد النشاط و الحماسة لدينه والمسلمين، و تذكر والدتي (نهلة عبد العال القزق، طبيبة) التي كانت ساعده الأيمن دعويا، تذكر بوضوح أنه لم يكن تابعا لأحد تنظيميا أو سياسيا، إلا أنه كان قادرا على التواصل مع الجميع. كان منزلنا على ما أذكر لا يكاد يخلو من الأنشطة الدعوية الإسلامية كشرح الحديث النبوي و تعليم قراءة القرآن والفقه ... الخ، وتذكر والدتي كيف زار مالك بن نبي هذا البيت الصغير في زيارته الوحيدة إلى سورية.

في بيتنا غرفتان على أحد جدران كل منهما رفوف تحتشد الكتب من جميع الاتجاهات فيها... الأديان والفلسفات والتاريخ والروايات.

إضافة إلى رؤية والدي.. والدتي.. خالتي.. جدي.. وصديقة والدتي، يقتادهم المخابرات صبيحة ذلك اليوم إلى المجهول، و من ثم عودة الجميع (ما عدا والدي) بعد فترة لا أذكر بالضبط كم طالت، ربما وصلت إلى الأسبوعين، وفي هذه الأثناء.. تم مطاردة واقتناص من بقي من الرجال في عائلتي فهرب أحد أعمامي وما يزال خارج البلد، العم الثاني كان في العربية السعودية إلا أنه عندما قرر العودة بعد 17 عاما من الغربة، كان له نصيب أيضا فاستضيف لمدة سنتين ليخرج إنسانا غير متوازن تماما حسب ظني، زوج إحدى عماتي أخلي سبيله بعد اثني عشر عاما لأنه كان قد حكم عامين!! وما يزال زوج عمة أخرى مجهول المصير كما هو مصير والدي.

كنت في العاشرة عندما شعرت بالرعب لرؤية والدي والأصفاد في يديه، فبدأت أجهش بالبكاء.. ولم يف والدي حتى الآن بالوعد الذي قطعه لي و هو ينظر إلي حينها قائلا: "لا تخاف بابا أنا راجع عن قريب" ... ومنذ ذلك اليوم... ما زلت أجهش، وما تزال عائلتي تجهش، وما يزال الآلاف يجهشون.

فيما بعد.. ولأنني أساساً أحب الاطلاع ولأنني قد تمت قولبتي وبشكل قاس كشخص يحمل همّ المسلمين والانتماء الإسلامي، وجدتني أسير على الخطوات ذاتها، فعرفت السلفية الألبانية و تماهيت بها لفترة، وتعرفت إلى الفكر الإخواني السياسي و تأثرت به رغم أنني لم أنخرط فيه بشكل منظم، وقدوتي في هذا والدي الذي لم يحصر نفسه في أي من الاتجاهات السائدة حينها، ومن ثم تعرفت إلى تقي الدين النبهاني ونظريته عبر حزبه و كتبه... وأيضا تماهيت به لفترة بشدة وحماسة وتعمق أيضا، إلا أنني و كما هي العادة لم أعط قيادي له.. ودخل جودت سعيد ومحمد شحرور وعلي شريعتي ومالك بن نبي مجال رؤيتي في الفترة التي كانت أواصري مع حزب التحرير تضعف لعوامل فكرية وأمنية، وهكذا إلى أن عمل منهج اللاعنف ونقد العقل وفتح باب الاجتهاد (أو تحطيمه برأي البعض) على يد محمد شحرور إلى إيصالي إلى نقطة القطيعة المعرفية مع منهج الفكر الإسلامي التقليدي، هذه القطيعة لم تكن تبرؤاً من الانتماء بقدر ما كانت ضرورة فكرية منهجية كي أستطيع محاولة رؤية دائرتي المعرفية الثقافية من خارجها.

منذ ذلك اليوم، أصبحت أنتمي لنفسي، نفسي التي هي مسلمة أساساً إنما أيضا هي خاصتي بالدرجة الأولى. وتهاوت الأصنام البشرية واحدا تلو الآخر، خصوصا أن قراءتي النهمة في علم النفس والتحليل النفسي كانت تريني لدرجة معينة من الوضوح كيف أننا جميعا محكومون بعدد كبير من الاشتراطات الواعية وغير الواعية، والتي تؤثر حتى في طريقة تناولنا لعوالم السياسة والثقافة والفكر والدين. ولأنني أعلم يقينا أنني محكوم بكل ما ذكرته سابقا، وأن ما أظنه حقيقة حقيقية هو رؤيتي الشديدة الخصوصية وأنني أعيش في الكون الذي أشكله لنفسي، فكيف أعطي قيادي لأي كائن ضعيف آخر..

وأفلح سحر جودت سعيد وعلي شريعتي و محمد شحرور وبيير داكو وهرمان هسه وليو تولستوي و النبي محمد وعيسى و موسى والبخاري و مسلم و الشافعي وتوماس أديسون وألبرت أينشتين و الفارابي و الجاحظ وجارنا الغشاش في حارتنا والأستاذ الظالم في مدرستنا والمشرف المنحاز في كليتنا، والكثير الكثير الذين لا أذكرهم... أفلح كل من كان في كوني الخاص في دفعي بعيدا عنهم... لأقول لهم: شكرا لكم... لقد وصلت الرسالة...لا انتماء إلى أحد منكم...... لا إله... إلا الله

وأنا الآن أصارع نفسي وأحاول التقرب من الله، وأظن أنني على حق و أخاف أن أكون من الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا، أقبل على الله و أفتر عنه أخاف منه و أغضب منه وأحبه وألجأ إليه و أيأس منه وأترجاه... تحتشد في نفسي المتناقضات جميعها مع أحلامي و ضعفي ومطباتي ومثالبي.

بعد هذا كله أتساءل...

ما لذي يمكن أن تعنيه جملة: "على الشاب أن يكون أكثر وضوحا وأن واجبه الديني يقتضي ذلك" لا أدري لم أحس أنه يشع منها معنى بدائي!!

والوضوح كيف يكون ؟ لا أدري؟

هل الانتماء الديني له لباس خاص؟ لون؟ جنسية؟ طريقة معينة في التحية؟ ماذا؟...
من الذي له الحق... والقدرة! أن يحدد كيف يكون الانتماء و كيف يكون الوضوح؟

البوطي لي موقف منه بسبب أنه كان وربما ما يزال بوق للسلطة، وسبب آخر شخصي أنه كان يهاجم "تفسير المؤمنين" و كاتبه (والدي) على المنابر.

مصطفى البغا قام بطرد أختي (التي كانت قد حققت المرتبة الثانية على القطر في الثانوية الشرعية) من قاعة المحاضرات، لأن له رأي خاص في غطاء رأسها وشكل لباسها... هذا التافه... قمت أنا ووالدتي بالمسارعة لمنزل زوجته الأولى (أعتقد أنه متزوج من 3) عندما كانت تشتكي من ألم ما.. هذا هو الموقف الحقيقي.. الموقف المنتمي.. موقف والدتي.. وليس موقف من طرد ابنتها.

أنا بكل بساطة كنت أدفع ثمن الانتماء، منذ استطعت أن أعي ما يجري حولي، وعلمني كل المتشدقون البارعون في الحروب الكلامية، الذين لم يضطرهم "انتماؤهم" للمخاطرة بمواقعهم أن أقول لهم... أغلقوا أفواهكم.. أنا الذي أعطي انتمائي شكله لا أنتم يا باعة الكلام.

هذه ردة فعل سجين سياسي سابق إبن سجين وسجينة سياسيين سابقين

فلنتكلم الآن عن الانتماء...

تحية ملؤها السلام...

همّام

***

فيما يلي مراسلة حامد التي دفعتني لكتابة ما سبق


قراءة في واقع تجديد الفكر الإسلامي 7

السلام عليكم ورحمة الله

يفترض بهذه أن تكون الجزء السابع من سلسلة مقالاتي وبشكل أدق كنت أتوقع ألا أنشرها ولكنني قمت بتعديل سريع عليها وأرسلتها

مشكلة الانتماء في صياغة التوجه الإسلامي

عندما كنت طفلا صغيرا بداية الثمانينات كان يعمل مع أحد أقاربي عائلة غير عربية لديها ابن شاب يدرس شريعة لا أدري كم يفصلني عنه عمرا ولكننا كنا نحبه ربما لأنه الوحيد الذي يتكلم العربية رغم قلة زيارته لعائلته
ما رسخ في ذهني حوار بينه وبين قريبي ((كلاهما إسلاميين)) لا أدري مضمون الحوار ولكنني أدركت ارتباك الشاب وسط اتهامات ما فهمته منها أن على الشاب أن يكون أكثر وضوحا وأن واجبه الديني يقتضي ذلك
مضت الأيام وغادرت الأسرة ولم أعلم عنها شيئا منذ ذلك الحين وذهب قريبي مع من ذهبوا دون عودة.. وعشت الجزء المتبقي من الثمانينات إسلامي التوجه والمظهر دون مضمون حقيقي بغياب الجزء الفاعل من أفراد العائلة
إلى أن جاءت بداية التسعينات بانفتاح ديني وكان من الطبيعي بالنسبة لنشأتي الأصولية أن أفضل السلفية على تيار الدكتور البوطي الذي كان في أوجه... واعتبر البوطي خصما ومن باب أولى كفتارو وكل ما يمت للسلطة بصلة رغم أن السلفية التي يقودها في دمشق ناصر الدين الألباني "رغم ابتعاده إلى الأردن" لم تكن مسيسة ولم أحتك بالقراءات السياسية للسلفية وسواهم إلا مع ظهور كتاب الجهاد للدكتور البوطي وردود الفعل الغاضبة عليه التي رأيتها في أوضح صورها بتفنيد الدكتور مصطفى البغا لها الذي تزامن تفسيره "ربما بمحض الصدفة" لسورتي الأنعام والأنفال مع صدور كتاب الجهاد طبعا أكمل هذا بعض إجابات الشيخ عبد القادر أرناؤوط الذي أدركت بوضوح ما يميزه عن الشيخ ناصر وضياع منهجه بين السلطة التي بدأت تراه عدوا وطلابه الذين يتعلمون عليه ويدينون بالولاء للشيخ ناصر
تلى ذلك تقلب أستاذي نواف تكروري وهو من مبعدي مرج الزهور بين الدكتور وهبة الزحيلي وأخيه الدكتور محمد للإشراف على رسالة الدكتوراه بعنوان العلاقات العامة بين دار الحرب ودار الإسلام
في هذه الفترة بدأ احتكاكي بأفكار جودت سعيد واللا عنف ربما بفضل حسن الكردي وتزايد اللقاءات العامة التي جمعت جودت سعيد والبوطي
وبما أن عائلتي تذكر الكثير من الجدل العقيم بين محمد الجراح والدكتور مصطفى السباعي كصديقين للعائلة حول العروبة والإسلام وتحديد كل منهما.... كان واضحا بالنسبة لي تخبط الإخوان كفكر إسلامي سائد في إعطاء موقف واضح من قضية القومية

كل هذه الأمور دفعتني لطرح تساؤل حول دوافع الأشخاص ضمن المتاح وكيف ترسم هذه الدوافع قراءتهم وحتى تفسيرهم للإسلام
وساهم تعرفي على بعض لاعنفيي داريا من جهة وتعميق الصلة بالتيار الناصري من جهة أخرى في توضيح هذه التساؤلات في ذهني ولا أستطيع القول إنني تمكنت من التوصل لإجابات خصوصا وأن طرح مثل هذه الأمور قد يحمل قدرا لا يستهان به من الإساءة للبعض وقليلون جدا هم الذين حاورتهم بصراحة في هذا الموضوع

لفت صديق بعثي نظري إلى أن التيارات الدينية في سورية على اختلافها يقودها أشخاص ليسوا عربا لأن الحكومة لا يمكن أن تسمح بذلك من وجهة نظره... ولكنني أعتقد أن الأمر أعقد من ذلك بكثير
أحمد كفتارو والبوطي والألباني والأرناؤوطان والبغا وحتى جودت سعيد وخالص جلبي إن اعتبرناهما في هذا الإطار.. جميع هؤلاء من الطبيعي أن يشعروا بأزمة في الانتماء لأي تيار سياسي وسط طغيان القومية وفكرة العروبة وتلبس حتى التيارات الإسلامية السياسية بشيء منها
وكأفراد فاعلين نشأوا في بيئة متدينة أو محافظة فإن كلا منهم وجد إطار انتماء واسع أقنع نفسه به ثم تراكمت الفكرة إلى أن أصبحت مقنعة ولكنها حتما بالنسبة للجميع باستثناء اللاعنفيين لا تعنى بالسياسة إلا من باب تسيير الأمور مرحليا نحو الإنتماء الأوسع الذي يفترضه الشخص
تجد ذلك بوضوح في مقارنة بين البوطي في رسالته حقائق عن نشأة القومية التي يحلق فيها كما في كبرى اليقينيات وكتابه الجهاد الذي تشعر أنه يحاول إقناعك بما هو ليس مقتنعا به
بينما رأى آخرون أن تحقيق الإنتماء الإسلامي غير ممكن فاستبدلوه بانتماء إنساني كانت بوادره واضحة في الفكر الأوربي
وبين هذا وذاك اندفع ذوي الأصول الأوربية نحو انتماء إسلامي أصولي نظري كشرط لا بد منه لبناء انتماء إسلامي واقعي وأظن أن بيئتهم ودوافعهم التي جعلت من ثلاثتهم علماء الحديث المسلمين في النصف الثاني من القرن العشرين هي نفس الدوافع التي جعلت من نوابغ بلاد السند وما وراء النهر معظم علماء الحديث في عصر التدوين ولا يشذ عن ذلك الإمام أحمد رغم كونه شيباني إلا أنه ولد وعاش طفولته في شيراز

لعل هذه مجرد تساؤلات أطرحها دون أجوبة واضحة لمحاولة تلمس الخطوة التالية

حامد

No comments: