Tuesday, December 25, 2007

الانتماء... أيضا

جاءت هذه المراسلة كمتابعة في نفس سلسلة المراسلات التي دفعتني لنشر التدوينة الأخيرة، وأجد أنه من الواجب أن تذكر المرأة التي كانت الجندي المجهول نوعا ما إلى جانب والدي... والدتي! تحية وتقدير وامتنان للسيدة المجاهدة نهلة القزق.

أيضا تجدون نص المراسلة التي أرد عليها في ما يلي الرد. كما أصرح أنني خطر لي أن أخفف من هجومي اللفظي على بعض الشخصيات الواردة في ثنايا الكلام، فقد خفت حدة غضبي (يبدو هذا بعد أن عبرت عنه) وأشعر أنه كان عليّ أن أكون أكثر هدوءاً، إلا أن أمانة النقل أوجبت عدم تغيير النص، فعذرا سلفاً عن النعوت والصفات، وأبقي أحكامي على التصرفات قائمة، رغم إمكانية كوني مخطئا فهذا من حقي.

***

سلام جديد لا عنفي عليكم،

أما بالنسبة لوالدتي... فلا أدري إن كان يمكنني الحكم على نقلاتها الفكرية إن صح التعبير... ماأعلمه هو أنها فعلا عبرت عدة مراحل ونقلات، وهي بالمناسبة كانت، قبل أن تكون الشخصية الثانية بعد منيرة قبيسي (إن صح ذلك) تنشط على مستوى الطالبات والطلبة في المرحلة الثانوية وكانت من الشخصيات البارزة حين ذاك، وأذكر أنني شاهدت صورة لها مع جمال عبد الناصر ضمن وفد طلابي في تلك الفترة وكانت حاسرة الرأس... إلا أنها قررت ارتداء غطاء الرأس قرب انتهاء السنة الأخيرة في مرحلة الدراسة الثانوية، وأظن أنها بعد ذلك تعرفت إلى منيرة القبيسي ونشطت معها في الوقت ذاته الذي كانت به تحتل موقعا مميزا في اتحاد الطلبة لقدراتها الخطابية الأدبية العالية.

نهلة القزق هي ابنة عبد العال سليم القزق (رحمه الله)، الرجل الفلسطيني العصامي والمقاول الناجح الذي اختار أن يلجأ إلى العمل الفدائي المسلح في فلسطين وبالذات في مدينته حيفا (حيث ما تزال عقاراته هناك بانتظار من يستردها) وقد احتك هناك بالشيخ نمر الخطيب، وصادف الشيخ تقي الدين النبهاني (الذي اجتمعتُ بحفيدته -أو ابنته- التي كانت صديقة لوالدتي وأدخلتني عالم اللغة الانكليزية تحضيرا للمرحلة الإعدادية) ومن ثم اضطر جدي إلى الهرب من حيفا قبل أو أثناء فترة صدور وعد بلفور، وتطويب فلسطين باسم اليهود بجريمة قانونية تاريخية سوف يستمر العالم بدفع ثمنها إلى أن ترجع الحقوق إلى أصحابها. فلسطين والقضية الفلسطينية لم تغادرا وجدان جدي و حمّلهما لأبنائه ولابنته البكر (والدتي) وأخيها الذي يصغرها (سليم) بشكل أساسي، سليم هذا الذي نشأ على النشاط والحماس لأجل القضية، دارت به الأيام والتطور الطبيعي لشخص مثله واجتمع مع والدي في السجن ذاته بعد أن اقتحمت الدبابات المسجد الأموي في عهد أمين الحافظ، وهناك شاهد والدي فتاة تأتي لزيارة أخيها وتجلب له كتبا ليقرأها... تلك كانت بداية قصة نهلة القزق و عبد الودود يوسف.

في الفترة ما بين ارتداء نهلة غطاء الرأس و لقائها بوالدي نشأ توجه نحو "الالتزام" في عائلة عبد العال سليم القزق (جدي) الذي كان لم يضغط على عائلته سابقا فيما يختص المظاهر الإسلامية رغم أنه كان مؤمنا متمسكا وممارسا على الطريقة الشاذلية، واستمر هذا التوجه متصاحبا مع مواهب واهتمامات والدتي في مجال النشاط العام ومع اللون الجديد الذي أدخلته تجارب والدي إلى المعادلة،و هنا حصل الاحتكاك بالتيار السلفي الألباني وفكر جودت سعيد في الوقت ذاته، ومما يجدر ذكره هنا أن السيدة ليلى سعيد (رحمها الله) ووالدتي ضمن مجموعة من النساء القلائل في تلك الفترة، كن هن اللواتي ارتدين "الجلباب" لأول مرة في سورية (على حد تعبيرهن) والذي انتشر تدريجيا ضمن أسر جودت سعيد و عبد الودود يوسف، ومن ثم انتشاره الأوسع في دمشق وبقية أرجاء البلد.

عبد الودود كما ذكرت لم يكن تابع تنظيميا و حتى فكريا لأحد، رغم تأثره بمعظم من كان حوله من التيارات والشخصيات، وممن لا يغفل أثرهم كان "سيد قطب" وفكرة الحاكمية ومؤلفه المشهور "في ظلال القرآن،" وعلى ما أعتقد أن والدي أراد أن يقوم بنشر فكره عن ضرورة مقاومة الظلم والواقع المتخلف للمسلمين سياسيا اجتماعيا وعلى كافة الصعد، بالطريقة ذاتها التي قام بها "سيد" في "ظلاله" فقام بكتابة (مايسمى، على حد تعبير السيد حامد) "تفسير المؤمنين،" ولم يكن التركيز في ذهن والدي (على ما أعتقد) أثناء كتابته للتفسير، على مراعاة التفسير الحرفي، أو السلامة من الشبهات العقيدية التي يتسلى بها بعض "المتفارغين" كـ "علي موزة" و "علي زرزور" عندما تهالكوا على انتقاد "تفسير المؤمنين" في كتبهم و منشوراتهم من مثل "حضارة الإسلام."

كان تركيزه منصبا على نشر فكرته الخاصة حول الجهاد والمقاومة، والتي لم يكن ليستطيع تمريرها في كتاب مستقل ضمن أجواء سيطرة حزب البعث والنظام الطائفي "التقدمي" إلا من خلال حيلة بثها عبر تفسير للمصحف الكريم ينتشر بين الناس البسطاء بلغة قريبة و مفهومه، فحصل على السماح بالطباعة والنشر. إلا أن القيادة القومية (أو القطرية) لحزب البعث تنبهت لهذا الأمر و أوصت ضمن تقرير (وصلت نسخة منه لوالدي، واطلعت عليه والدتي) أصدرته بمحاربة انتشار التفسير وحث رجال الدين "المرضي عنهم" على مهاجمته والنيل منه على المنابر، وهنا جاء دور "البوطي"

عبد الودود، أقر أنه يجب إدخال التغييرات و التصحيحات المحقة في التفسير كشرط أساسي إن كان التفسير سينشر مرة ثانية، وهذا ما صرح به والدي لوالدتي عندما كنا نزوره في سجن قلعة دمشق وعبر عن رغبته الملحة في ذلك... "لا تنشروا التفسير أو تعيدوا طباعته قبل إدخال التعديلات والتصحيحات"

فترة بقاء عبد الودود في سجن القلعة لم تطل، فبعد أن كان أتي به من "كراكون الشيخ حسن" حيث تم إجراء التحقيق الأولي معه هو وبقية أفراد الأسرة والأصدقاء الذين ذكرتهم سابقا، تم استدعاؤه للتحقيق مرة أخرى، لكن هذه المرة كان مصيره الاختفاء حتى يومنا هذا! وأنا كنت من شاهده للمرة الأخيرة عندما سمح لي حراس سجن القلعة بالدخول بعد طول رجاء و تذلل من العشرات من النساء اللواتي أنهكهن الانتظار ذلك اليوم، أدخلت له بعض الملابس... والأشواق... الأخيرة.

ما أزال أحتفظ بملخصات والدي للكتب التي كان يدرسها مع جودت، والدروس و المحاضرات وكتب مالك بن نبي، كما كان كتاب "كيف هدمت الخلافة" أحد عشرات المئات من الكتب التي تركها والدي وراءه، كما كان كتب مثل "كيف انتصر الفيتكونغ" و رواية "كيف سقينا الفولاذ" لـ "ليو تولستوي" و سلسلة كتب "لينيننا" ورواية "الأم" لمكسيم غوركي، وفتاوى ابن تيمية.... كتب عباس محمود العقاد مثل "عبقرية عمر" وكتاب "معالم في الطريق" و "في ظلال القرآن" لقطب، والترغيب و الترهيب للنووي، وكتب شوقي أبو خليل و المودودي و ناصرالدين الأباني، ومصطفى محمود و و .... الخ

وأنا، ابن كل ما سبق، ولم أذكر العديد من التفاصيل بالمناسبة!

الآن...

ما هو الغريب يا سيد حامد؟
أن يكون ابن نهلة القزق " متزوج ويعيش في التشيك وهو من الإسلاميين الجدد ((اللا عنفيين))" على حد تعبيرك، هذا غريب!؟ ولماذا هو غريب؟
ولماذا لم تعمل أسرتك الكريمة على إعادة الصلات بعد أن "انقطعت صلة هذا التيار بأسرتنا بعد أن منعت الدروس التي كانوا ينظمونها أواسط الستينات!!"
وهل "زوجها" نكرة كي لا يذكر اسمه؟

أم أن الناس فقط يبرعون في الكلام على الآخرين!؟

وأيضاً...

هذه هي الفقرة "المخفية" ما قبل "ثانيا" في رسالة سابقة لك سيد حامد:

السؤال الأول
هو استغراب هذا الشخص لأن يكون هناك خلاف سابق بين همام ود.محمد العمار رغم أنه يجدهما جد متشابهين
أنا قلت إنه في غياب حامد فإن الخلافات البسيطة تطفو على السطح بينما تختفي بظهور خصم مشترك
هل لي أن أعلم لم أخفيتها؟ ومن هو هذا "الشخص" الذي تتناول و إياه شؤون وأعضاء المجموعة!؟ وهل هناك مشكلة إن كنت ومحمد العمار متشابهين، أو على خلاف؟ وما المعنى الذي تحاول إيصاله هنا!؟ وأرجو منك يا سيد حامد أن تتواضع قليلا... فعلى ما أظن أن محمد العمار، ويقين عن نفسي، نعتبر حضرتك "مهم" و "خصم" بقدر ما تمثل أفكارك موضوعا يستحق النقاش، وليس ذلك خصومة شخصية كما توحي كلماتك! بالله عليك أنت فعلا تصدق ما قلته!؟ وعندما تراجع بقلب و ذهن مفتوحين مراسلاتنا السابقة ستجد دلائل كثيرة على خطأ نظرية الخصومة المبتذلة (أقل ما يقال بها) التي تفضلت بها هنا... عجيب!

هل من الإخلاص أن يقوم "البوطي" مع احترامي لبعض ما يتفضل به بالـ "الردح" على منابر المساجد، في الوقت الذي ينسى أن يقول كلمة حق لدى سلطان جائر بل مجرم بحق الشعب الذي يتنزل عليه البوطي ببركاته من فوق المنبر!؟ أم من الإخلاص أن تطرد طالبة علم شرعي من محاضرتك في كلية الشريعة وتهينها أمام زملائها، بينما تتبجح بفحولتك علنا في مناسبات مختلفة، كما فعل "التافه" البغا!؟

شتان ما بين ما يقوله جودت (في السر والعلن) بحق الأنظمة العربية والشعوب العربية، وبين الهاربين من متاحف التاريخ الخائفين على مراكزهم بالدرجة الأولى!

وكيف تقارن يا فهلوي زمانك بين من كان ترتيبها الثانية على القطر في الثانوية الشرعية، وبين من لايستطيع قراءة القرآن من البعثيين المدحوشين في كلية الشريعة!؟

"البغا" يستطيع فرد شخصيته "المجعلكة" على من يعلم أنه لن يتسبب له بالأذية، كابنة "المجرم عبد الودود يوسف" (كما سمته كتب البعثيين، رغم اعترافهم أنه لم يمارس العمل العسكري أو العنف،) نعم... انتفشت أسارير هذا التافه... وامتشق حسامه ولسانه، وانطلق لنصرة الله و الدين... وأعلنها حربا لا هوادة بها... على من!! ..... على هذه الفتاة.

أنا واقعي سيد حامد... وأحترم فقط من تطابق أفكاره تصرفاته وادعاءاته، هؤلاء "رجال دين" و في ديننا ليس هذا الصنف معترف به، المعترف بهم هم "العلماء العاملون" كالعز بن عبد السلام الذي تصدى للماليك وظلمهم.

نحن يا سيد حامد، تركنا لنخوض في الحياة بكامل حريتنا، هذا ما فعله لنا آباؤنا إضافة لما زرعوه فينا، وعندما كنتُ أضع المسواك في فمي وأتنقل منتعلا "الشالوخ" و مرتديا الدشداشة وبعض الزغب يتناثر على وجهي، لم ترتعد أمي، لكنها ارتعدت عندما كنت أفكر بالذهاب إلى السعودية لأدرس الشريعة هناك أو عندما كانت تداعب مخيلتي المراهقة فكرة الذهاب للقتال في أفغانستان! فأعلنت سطوتها عليّ وشكرا لها أن قد فعلت. ثم لم ترتعد عندما تحول منزلنا إلى ساحة صراع فكري بين أفكار حزب التحرير والفكر التقليدي السلفي، ثم لم ترتعد عندما شاهدت الابن يعود إلى مشارب والده ويزور صديق والده "جودت" بل صعدت معه الجبل هناك حيث "خميس جودت" كل شهر. وأعانها الله عندما اختفى ولدها قرابة العام ثم عاد صبيحة ذات يوم شتوي.

وعسى أن يجعل الله خواتيم أعمالنا خيرا بفضل منه لا بما اكتسبت أيدينا.


تحية ملؤها السلام...
همّام

***

فيما يلي النص الذي حفزني للرد...

السلام عليكم ورحمة الله

لعل ما أضيفه ليس جديدا ولكنه في إطار قراءة تطور فكر بعض الشخصيات المحورية فكريا بشكل عام
عندما سألت والدي فيما إذا كانت الدكتورة نهلة من دفعته... قال بأنها كانت زميلة لعمتي في الكلية...
[الوالد]ما سبب السؤال...
[الابن]أنا تعرفت على ابنها...
[الوالد]كيف هي؟...
[الابن]أنا لا أعرف عنها شيئا ولكن ابنها متزوج ويعيش في التشيك وهو من الإسلاميين الجدد ((اللا عنفيين))...
[الوالد]هذا غريب فالدكتورة نهلة كانت الشخصية الثانية في هيكلية التبليغ النسائي بعد منيرة قبيسي التي عرف هذا التيار فيما بعد باسمها... وانقطعت صلة هذا التيار بأسرتنا بعد أن منعت الدروس التي كانوا ينظمونها أواسط الستينات!!
أما زوجها فقد انقطعت أخباره بعد الفترة الأولى من التحقيق رغم أنه لم يكن على علاقة بالإخوان وقد شهدت السنوات الأخيرة نقدا شديدا من مجلة حضارة الإسلام التابعة للإخوان لتفسيره المسمى تفسير المؤمنون
***
ومن مراسلة أخرى ما يلي...
ثالثا- مسألة البوطي والبغا وحتى جودت سعيد....إلخ
أعتقد أنه من الأفضل لنا جميعا أن نكون واقعيين ونحترم ولو ضمنيا اجتهاد الطرف الآخر المختلف قليلا أو كثيرا في ظل قرائن تشير إلى أنه مخلص في غايته
أي مطلع على التيار السلفي في الشام حتى أواسط التسعينات كان يعلم رؤية السلفية للدكتور البوطي المنافح عن المذاهب والأشاعرة في وجه خطر يهدد بجعل الأمة مليار مجتهد.. وأنا لم أكن أرى في هذا أي مشكلة حتى 97-98 عندما بدأت بالاحتكاك بمفاهيم ناتجة عن المنهج السلفي وبعض روايات أؤلئك الذين خرجوا من السجون عن أفكار السلفيين الإخوانيين في السبعينات والتي يبدو معها رضاع الكبير أمرا بسيطا.... هنا ألتمس قليلا من العذر للدكتور البوطي في مهاجمته لكل ما تفوح منه رائحة السلفية
وأما كونه بوقا للسلطة فقد دار نقاش طويل هنا بهذا الشأن بدأته رزان ولكنني أكتفي بدعوة الجميع مقارنة هذا الاتهام باتهام موجه لجودت وخالص ومن لف لفهم بأنهم أبواق للعولمة والتغريب؟
في النهاية خسر البوطي جولة شد الحبل مع السلفية ليس بفضل بنيتها بل لأنه دفعها من الألباني إلى الدكتور عبد الله عزام في كتابه الجهاد أما موضوع البغا فنفس الأمر ولكن صديقي همام:: عندما دخلت الميكانيك عام 1990 كان الدخول إلى كلية الشريعة أصعب من كلية الرياضيات لطالب العلمي ولكنه متاح لمجرد كونك حزبي ناجح؟؟ما هو المعيار الذي تريد من البغا وأمثاله تطبيقه لكي يحاول أن يؤخر وجود قاض شرعي في بلدتي منذ أعوام لا يعرف كيف يقرأ القرآن؟

Friday, December 07, 2007

فلنتكلم الآن عن الانتماء

أشارك ببعض الأفكار والكتابات في مجموعة للمراسلة من مجموعات غوغل، تدعى المجموعة "نقاش مفتوح حول الفكر والإسلام،" وكثيرا ما يستغل أحدنا مراسلة من المراسلات لتمرير بعض الأفكار والمشاعر التي قد لا تكون على صلة كاملة بها، إلا أن هذا لا يعني عدم وجود تلك الصلة تماما.

فيما يلي نص مراسلة كنت قد عبّرت بها عن بعض ما اعتلج في صدري عند قراءتي لما كتبه أخ لنا في هذه المجموعة، وسأضع نص مساهمته في نهاية هذه التدوينة.

***

فلنتكلم الآن عن الانتماء


وعليكم السلام،

هذا قد لا يكون بالضرورة إجابة عن تساؤلات حامد، إنما هو ربما لمس من حيث لا يدري وترا حساسا لدي وعسى أن تتمتع بالروية والصبر عزيزي حامد!


والدي هو عبد الودود يوسف (كاتب إسلامي التوجه، ماجستير تاريخ من جامعة عين شمس، القاهرة) ... وأظن أن البعض ما زال يذكر من كان هذا الشخص و ما كان اتجاهه، إلا أنني ربما سأوضح قليلا ما كان عليه.

نشأ والدي في مدينة حمص في بيئة متدينة تقليدية إلا أن أسرته (جده من والده تحديدا) كانت من الأسر التي يحترمها الناس بسبب التزامها وورعها، ثم أثناء دراسته احتك بالفكر الإخواني وعلى رأسه مصطفى السباعي. ولا أدري بالضبط متى كان احتكاكه بطرح ناصر الين الألباني وطرح جودت سعيد، وهل كان ذلك قبل أو بعد انتقاله إلى مدينة دمشق. السمة العامة لوالدي كانت أنه شديد النشاط و الحماسة لدينه والمسلمين، و تذكر والدتي (نهلة عبد العال القزق، طبيبة) التي كانت ساعده الأيمن دعويا، تذكر بوضوح أنه لم يكن تابعا لأحد تنظيميا أو سياسيا، إلا أنه كان قادرا على التواصل مع الجميع. كان منزلنا على ما أذكر لا يكاد يخلو من الأنشطة الدعوية الإسلامية كشرح الحديث النبوي و تعليم قراءة القرآن والفقه ... الخ، وتذكر والدتي كيف زار مالك بن نبي هذا البيت الصغير في زيارته الوحيدة إلى سورية.

في بيتنا غرفتان على أحد جدران كل منهما رفوف تحتشد الكتب من جميع الاتجاهات فيها... الأديان والفلسفات والتاريخ والروايات.

إضافة إلى رؤية والدي.. والدتي.. خالتي.. جدي.. وصديقة والدتي، يقتادهم المخابرات صبيحة ذلك اليوم إلى المجهول، و من ثم عودة الجميع (ما عدا والدي) بعد فترة لا أذكر بالضبط كم طالت، ربما وصلت إلى الأسبوعين، وفي هذه الأثناء.. تم مطاردة واقتناص من بقي من الرجال في عائلتي فهرب أحد أعمامي وما يزال خارج البلد، العم الثاني كان في العربية السعودية إلا أنه عندما قرر العودة بعد 17 عاما من الغربة، كان له نصيب أيضا فاستضيف لمدة سنتين ليخرج إنسانا غير متوازن تماما حسب ظني، زوج إحدى عماتي أخلي سبيله بعد اثني عشر عاما لأنه كان قد حكم عامين!! وما يزال زوج عمة أخرى مجهول المصير كما هو مصير والدي.

كنت في العاشرة عندما شعرت بالرعب لرؤية والدي والأصفاد في يديه، فبدأت أجهش بالبكاء.. ولم يف والدي حتى الآن بالوعد الذي قطعه لي و هو ينظر إلي حينها قائلا: "لا تخاف بابا أنا راجع عن قريب" ... ومنذ ذلك اليوم... ما زلت أجهش، وما تزال عائلتي تجهش، وما يزال الآلاف يجهشون.

فيما بعد.. ولأنني أساساً أحب الاطلاع ولأنني قد تمت قولبتي وبشكل قاس كشخص يحمل همّ المسلمين والانتماء الإسلامي، وجدتني أسير على الخطوات ذاتها، فعرفت السلفية الألبانية و تماهيت بها لفترة، وتعرفت إلى الفكر الإخواني السياسي و تأثرت به رغم أنني لم أنخرط فيه بشكل منظم، وقدوتي في هذا والدي الذي لم يحصر نفسه في أي من الاتجاهات السائدة حينها، ومن ثم تعرفت إلى تقي الدين النبهاني ونظريته عبر حزبه و كتبه... وأيضا تماهيت به لفترة بشدة وحماسة وتعمق أيضا، إلا أنني و كما هي العادة لم أعط قيادي له.. ودخل جودت سعيد ومحمد شحرور وعلي شريعتي ومالك بن نبي مجال رؤيتي في الفترة التي كانت أواصري مع حزب التحرير تضعف لعوامل فكرية وأمنية، وهكذا إلى أن عمل منهج اللاعنف ونقد العقل وفتح باب الاجتهاد (أو تحطيمه برأي البعض) على يد محمد شحرور إلى إيصالي إلى نقطة القطيعة المعرفية مع منهج الفكر الإسلامي التقليدي، هذه القطيعة لم تكن تبرؤاً من الانتماء بقدر ما كانت ضرورة فكرية منهجية كي أستطيع محاولة رؤية دائرتي المعرفية الثقافية من خارجها.

منذ ذلك اليوم، أصبحت أنتمي لنفسي، نفسي التي هي مسلمة أساساً إنما أيضا هي خاصتي بالدرجة الأولى. وتهاوت الأصنام البشرية واحدا تلو الآخر، خصوصا أن قراءتي النهمة في علم النفس والتحليل النفسي كانت تريني لدرجة معينة من الوضوح كيف أننا جميعا محكومون بعدد كبير من الاشتراطات الواعية وغير الواعية، والتي تؤثر حتى في طريقة تناولنا لعوالم السياسة والثقافة والفكر والدين. ولأنني أعلم يقينا أنني محكوم بكل ما ذكرته سابقا، وأن ما أظنه حقيقة حقيقية هو رؤيتي الشديدة الخصوصية وأنني أعيش في الكون الذي أشكله لنفسي، فكيف أعطي قيادي لأي كائن ضعيف آخر..

وأفلح سحر جودت سعيد وعلي شريعتي و محمد شحرور وبيير داكو وهرمان هسه وليو تولستوي و النبي محمد وعيسى و موسى والبخاري و مسلم و الشافعي وتوماس أديسون وألبرت أينشتين و الفارابي و الجاحظ وجارنا الغشاش في حارتنا والأستاذ الظالم في مدرستنا والمشرف المنحاز في كليتنا، والكثير الكثير الذين لا أذكرهم... أفلح كل من كان في كوني الخاص في دفعي بعيدا عنهم... لأقول لهم: شكرا لكم... لقد وصلت الرسالة...لا انتماء إلى أحد منكم...... لا إله... إلا الله

وأنا الآن أصارع نفسي وأحاول التقرب من الله، وأظن أنني على حق و أخاف أن أكون من الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا، أقبل على الله و أفتر عنه أخاف منه و أغضب منه وأحبه وألجأ إليه و أيأس منه وأترجاه... تحتشد في نفسي المتناقضات جميعها مع أحلامي و ضعفي ومطباتي ومثالبي.

بعد هذا كله أتساءل...

ما لذي يمكن أن تعنيه جملة: "على الشاب أن يكون أكثر وضوحا وأن واجبه الديني يقتضي ذلك" لا أدري لم أحس أنه يشع منها معنى بدائي!!

والوضوح كيف يكون ؟ لا أدري؟

هل الانتماء الديني له لباس خاص؟ لون؟ جنسية؟ طريقة معينة في التحية؟ ماذا؟...
من الذي له الحق... والقدرة! أن يحدد كيف يكون الانتماء و كيف يكون الوضوح؟

البوطي لي موقف منه بسبب أنه كان وربما ما يزال بوق للسلطة، وسبب آخر شخصي أنه كان يهاجم "تفسير المؤمنين" و كاتبه (والدي) على المنابر.

مصطفى البغا قام بطرد أختي (التي كانت قد حققت المرتبة الثانية على القطر في الثانوية الشرعية) من قاعة المحاضرات، لأن له رأي خاص في غطاء رأسها وشكل لباسها... هذا التافه... قمت أنا ووالدتي بالمسارعة لمنزل زوجته الأولى (أعتقد أنه متزوج من 3) عندما كانت تشتكي من ألم ما.. هذا هو الموقف الحقيقي.. الموقف المنتمي.. موقف والدتي.. وليس موقف من طرد ابنتها.

أنا بكل بساطة كنت أدفع ثمن الانتماء، منذ استطعت أن أعي ما يجري حولي، وعلمني كل المتشدقون البارعون في الحروب الكلامية، الذين لم يضطرهم "انتماؤهم" للمخاطرة بمواقعهم أن أقول لهم... أغلقوا أفواهكم.. أنا الذي أعطي انتمائي شكله لا أنتم يا باعة الكلام.

هذه ردة فعل سجين سياسي سابق إبن سجين وسجينة سياسيين سابقين

فلنتكلم الآن عن الانتماء...

تحية ملؤها السلام...

همّام

***

فيما يلي مراسلة حامد التي دفعتني لكتابة ما سبق


قراءة في واقع تجديد الفكر الإسلامي 7

السلام عليكم ورحمة الله

يفترض بهذه أن تكون الجزء السابع من سلسلة مقالاتي وبشكل أدق كنت أتوقع ألا أنشرها ولكنني قمت بتعديل سريع عليها وأرسلتها

مشكلة الانتماء في صياغة التوجه الإسلامي

عندما كنت طفلا صغيرا بداية الثمانينات كان يعمل مع أحد أقاربي عائلة غير عربية لديها ابن شاب يدرس شريعة لا أدري كم يفصلني عنه عمرا ولكننا كنا نحبه ربما لأنه الوحيد الذي يتكلم العربية رغم قلة زيارته لعائلته
ما رسخ في ذهني حوار بينه وبين قريبي ((كلاهما إسلاميين)) لا أدري مضمون الحوار ولكنني أدركت ارتباك الشاب وسط اتهامات ما فهمته منها أن على الشاب أن يكون أكثر وضوحا وأن واجبه الديني يقتضي ذلك
مضت الأيام وغادرت الأسرة ولم أعلم عنها شيئا منذ ذلك الحين وذهب قريبي مع من ذهبوا دون عودة.. وعشت الجزء المتبقي من الثمانينات إسلامي التوجه والمظهر دون مضمون حقيقي بغياب الجزء الفاعل من أفراد العائلة
إلى أن جاءت بداية التسعينات بانفتاح ديني وكان من الطبيعي بالنسبة لنشأتي الأصولية أن أفضل السلفية على تيار الدكتور البوطي الذي كان في أوجه... واعتبر البوطي خصما ومن باب أولى كفتارو وكل ما يمت للسلطة بصلة رغم أن السلفية التي يقودها في دمشق ناصر الدين الألباني "رغم ابتعاده إلى الأردن" لم تكن مسيسة ولم أحتك بالقراءات السياسية للسلفية وسواهم إلا مع ظهور كتاب الجهاد للدكتور البوطي وردود الفعل الغاضبة عليه التي رأيتها في أوضح صورها بتفنيد الدكتور مصطفى البغا لها الذي تزامن تفسيره "ربما بمحض الصدفة" لسورتي الأنعام والأنفال مع صدور كتاب الجهاد طبعا أكمل هذا بعض إجابات الشيخ عبد القادر أرناؤوط الذي أدركت بوضوح ما يميزه عن الشيخ ناصر وضياع منهجه بين السلطة التي بدأت تراه عدوا وطلابه الذين يتعلمون عليه ويدينون بالولاء للشيخ ناصر
تلى ذلك تقلب أستاذي نواف تكروري وهو من مبعدي مرج الزهور بين الدكتور وهبة الزحيلي وأخيه الدكتور محمد للإشراف على رسالة الدكتوراه بعنوان العلاقات العامة بين دار الحرب ودار الإسلام
في هذه الفترة بدأ احتكاكي بأفكار جودت سعيد واللا عنف ربما بفضل حسن الكردي وتزايد اللقاءات العامة التي جمعت جودت سعيد والبوطي
وبما أن عائلتي تذكر الكثير من الجدل العقيم بين محمد الجراح والدكتور مصطفى السباعي كصديقين للعائلة حول العروبة والإسلام وتحديد كل منهما.... كان واضحا بالنسبة لي تخبط الإخوان كفكر إسلامي سائد في إعطاء موقف واضح من قضية القومية

كل هذه الأمور دفعتني لطرح تساؤل حول دوافع الأشخاص ضمن المتاح وكيف ترسم هذه الدوافع قراءتهم وحتى تفسيرهم للإسلام
وساهم تعرفي على بعض لاعنفيي داريا من جهة وتعميق الصلة بالتيار الناصري من جهة أخرى في توضيح هذه التساؤلات في ذهني ولا أستطيع القول إنني تمكنت من التوصل لإجابات خصوصا وأن طرح مثل هذه الأمور قد يحمل قدرا لا يستهان به من الإساءة للبعض وقليلون جدا هم الذين حاورتهم بصراحة في هذا الموضوع

لفت صديق بعثي نظري إلى أن التيارات الدينية في سورية على اختلافها يقودها أشخاص ليسوا عربا لأن الحكومة لا يمكن أن تسمح بذلك من وجهة نظره... ولكنني أعتقد أن الأمر أعقد من ذلك بكثير
أحمد كفتارو والبوطي والألباني والأرناؤوطان والبغا وحتى جودت سعيد وخالص جلبي إن اعتبرناهما في هذا الإطار.. جميع هؤلاء من الطبيعي أن يشعروا بأزمة في الانتماء لأي تيار سياسي وسط طغيان القومية وفكرة العروبة وتلبس حتى التيارات الإسلامية السياسية بشيء منها
وكأفراد فاعلين نشأوا في بيئة متدينة أو محافظة فإن كلا منهم وجد إطار انتماء واسع أقنع نفسه به ثم تراكمت الفكرة إلى أن أصبحت مقنعة ولكنها حتما بالنسبة للجميع باستثناء اللاعنفيين لا تعنى بالسياسة إلا من باب تسيير الأمور مرحليا نحو الإنتماء الأوسع الذي يفترضه الشخص
تجد ذلك بوضوح في مقارنة بين البوطي في رسالته حقائق عن نشأة القومية التي يحلق فيها كما في كبرى اليقينيات وكتابه الجهاد الذي تشعر أنه يحاول إقناعك بما هو ليس مقتنعا به
بينما رأى آخرون أن تحقيق الإنتماء الإسلامي غير ممكن فاستبدلوه بانتماء إنساني كانت بوادره واضحة في الفكر الأوربي
وبين هذا وذاك اندفع ذوي الأصول الأوربية نحو انتماء إسلامي أصولي نظري كشرط لا بد منه لبناء انتماء إسلامي واقعي وأظن أن بيئتهم ودوافعهم التي جعلت من ثلاثتهم علماء الحديث المسلمين في النصف الثاني من القرن العشرين هي نفس الدوافع التي جعلت من نوابغ بلاد السند وما وراء النهر معظم علماء الحديث في عصر التدوين ولا يشذ عن ذلك الإمام أحمد رغم كونه شيباني إلا أنه ولد وعاش طفولته في شيراز

لعل هذه مجرد تساؤلات أطرحها دون أجوبة واضحة لمحاولة تلمس الخطوة التالية

حامد

Tuesday, August 21, 2007

وليزهق الباطل



الخطر الحقيقي...

هو الذي يحصل على الحدود الشمالية لسورية!

نعم... هناك في تركيا يكمن الخطر الحقيقي لكن ليس على الناس بل على الأنظمة العربية "الدّعية-الإسلاميّة"، هناك قال الناس كلمتهم بحرية رغم أنف العسكر، هناك اختار الناس من قدم إجابات حقيقية ملموسة تروي غليل المحتاج مادياً... وغليل المحتاج معنويا أيضاً، وأسقط في يد العسكر.

فحزب العدالة ضرب جذوره في تربة غنية وأصبح الناس هم مالكو حزبهم وليس العكس... ولذلك بالذات سيحمونه ويرعونه كي يستمر بالعطاء والنماء، ولا خوف بعد الآن من العسكر وإن نفذوا تهديدهم، فمن يتحكم باللعبة الآن هم أولئك البسطاء الذين حققوا النصر "الإلهي الإنساني" أيضا.

أتمنى لهم أن يمتلكوا قدرهم ببصيرة ووعي وألا يفرطوا في ما صنعت أيديهم ظنا منهم أنها "كرامة" خوارقية.

نتطلع للأتراك مرة أخرى كي يعينوننا على مماليكنا اليوم كم أعانونا على مماليك أيامنا الماضية، لكن هذه المرة بنصر وتثبيت من شكل آخر، بنموذج ناجح لحريات وعدالة و تنمية حقيقية.

بئس ما صنعت أياديكم يا مدّعي التقدمية العروبة والوطنية، ولتذهب إلى الجحيم جثتك المتعفنة يا حزب البعث، فلم يعد بإمكاني الإقياء أكثر.

*

Tuesday, July 24, 2007

تجربتي المنقضية مع حزب التحرير وتداعياتها - الجزء الأخير

الدولاب تسمية معروفة لكل السوريين بفضل الثقافة الإرهابية الرسمية، وكانت له رهبة وغموض أسود خاص به، ورغم معرفتي ويقيني التاميين أن المحقق يعرف تماما من يسأل عنهما و رغم يقيني أنني بإمكاني تجنب "الدولاب" فقط بإقراري بمعرفتهما قبل أن أغادر الغرفة! إلا أنني كنت أريد لقاء هذا الغول الغامض ومجابهته وجها لوجه، وهكذا لذت بالصمت منتظرا هذا الدولاب البعبع.



<>- حدثنا عن فترة اعتقالك، مع المجموعة التي اعتقلت معها، عددالمعتقلين، ظروف التحقيق، مكانه ومكان السجن، ظروف السجن، مدى احتكاكك بسجناء من خلفيات أخرى، علاقتك بأعضاء الحزب المعتقلين أثناء السجن، المحاكمة إن وجدت؟

اعتقلت بتاريخ 29/12/1999 حوالي العاشرة ليلا فيما يشبه الاختطاف الذي نعرفه من القصص والأفلام. يومها كانت مكالمة غريبة من والدتي قد أثارت لدي توجسا عميقا، فقد أخبرتني أن هناك من يدّعون أنهم أصدقائي من أيام خدمة العلم (أي منذ العام 1993 !!) يريدون رؤيتي وأنهم يحملون رسالة لي، وعندما سألت ما أسماؤهم وما أعمارهم تعجبت أكثر مما وصفت، ولما قلت لها أن تستلم الرسالة بدلا عني أخبروها أنني يجب أن أستلمها بيدي، هنا طلبت منها أن تحصل على رقم هاتف منهم علني أتصل بهم فيما بعد... وبعد قليل تلقيت اتصالا من أحدهم يقول لي أنه أبو ثائر (؟؟) وأنه يجب أن يسلمني الرسالة... وألح في معرفة عنوان منزلي بدقة إلا أنني استطعت إقناعه بأنني سألتقيه في مكان يسهل على كلينا الوصول إليه.

كل ماكان يجري كان يؤكد لي أن هناك أمرا مريبا وأن احتمال وشاية أو تقرير إلى الأجهزة القمعية ( ولا أقول الأمنية ) قد يكون وراء مسرحية بوليسية كهذه، وقد تأكدت من ذلك عندما استطعت الوصول إلى مكان اللقاء بحيث أرى من ينتظرني ولا يراني، وأبصرت الباص الصغير المحمل بالعناصر المسلحة وكذلك سيارة الضابط التي كان محركها يدور رغم أنوارها المطفأة، في هذه الأثناء وصل أخي إلى مكان يستطيع منه مراقبة مايحدث دون أن يتدخل كما طلبت منه عبر الهاتف قبل أن أغادر المنزل لأنني لم أكن مطمئنا لما قد يحدث في خضم كل هذا الغموض. ترددت قليلا وتباطأت خطواتي وكان بإمكاني التراجع والتواري في الظلام إلا أن الذي كان يحيرني هو التساؤل عما قد يكون السبب في هذا، ولإيماني الكبير أنه لا مبرر للقلق ويقيني أنني كنت أقول في العلن ما أضمره في نفسي قررت المتابعة ومواجهة الأمر كائنا ماكان بدلا من الهرب الذي يثبت علي أية تهمة وإن كانت كاذبة.

وما إن وصلت إلى الرجل الذي ينتظرني (علمت فيما بعد أنه عقيد في المخابرات الجوية اسمه الأول مطانيوس) ومددت يدي مصافحا ومعرفا بنفسي حتى تشبث بذراعي بشدة وأحاط بي العساكر تحسبا أن ألوذ بالفرار (؟!)

أخبرهم الضابط ألا يزعجونني -لأنني على مايبدو محترم، على حد تعبيره (!!)- وفعلا لم أتعرض لأي إزعاج!!، إلا أن هذا لم يغير من إجراءات تكبيل يدي خلف ظهري و وضع عصبة على عيني بالإضافة إلى إلزامي بخفض رأسي ليلامس ظهر الكرسي الأمامي.

وبعد أن أكد الضابط لأخي -الذي كانوا قد أمسكوا به- أنني مطلوب للسؤال فقط ولن يطول الوقت حتى أعود، انطلق الباص الصغير ( ندعوه سرفيس في سورية) في ظلمات تلك الليلة يقودني في رحلته نحو المجهول وقد تجاوزت الساعة الحادية عشرة ليلا و دماغي يكاد يتمزق لتسارع الأفكار وتزاحمها في محاولة اكتشاف ماذا؟ ومن؟ ولماذ؟ا وإلى أين؟

أما كيف جرت الأمور بعدها فهي مشابهة كثيرا لما كتب في هذا الشأن من قبل معتقلين سياسيين سابقين، شتائم وإهانات صفعات وخلافه، وهذا حصل بعد أن اجتزت مرحلة الديوان حيث سجلت كافة المعلومات عني وتم التقاط صور لي كما الأفلام الأمريكية وتم تجريدي من كل شيء ما عدا ملابسي وحذائي الذي نزعت سيوره تلبية لطلبهم. وبعد أن تم تفتيشي مرة ثانية، وضعت في زنزانة "إفرادية" تبلغ أبعادها (180X220سم) مع أربعة أشخاص آخرين كنت أتقاسم معهم طعام الإفطار والسحور (كنا في الأيام الأخيرة من رمضان) وعلمت منهم فيما بعد أنهم كانوا عناصر أمن تابعين للمخابرات الجوية موقوفين لمخالفات مسلكية بسيطة، هذا في اليوم الأول من اعتقالي... إذ بقيت أنتظر يومين أو أكثر قبل بداية التحقيق معي، وطيلة اليومين أو الثلاثة كنت مازلت لا أعلم سبب اعتقالي، قد أخبروني أثناءها أنني موجود في فرع التحقيق التابع للمخابرات الجوية. وفيما عدا الاستقبال الذي قام به السجانون عندما دخلت مبنى السجن (الذي كان فوق الأرض) فإنني لم أتعرض لأية إساءات أخرى، ويبدو أن توجيها بعدم الإزعاج أو الاعتداء البدني على الموقوفين قد عمم عليهم.

في صباح أحد الأيام تم استدعائي للتحقيق، إذ تم فتح المزلاج المعدني في باب الزنزانة مصدرا صوتا كريها، و وقف السجان مخاطبا إياي طالبا مني التوجه إلى التحقيق: هيا بسرعة إلى التحقيق... إنزع حذاءك... لا تبق شيء على جسدك ماعدا البنطال! وهكذا خرجت عاري النصف الأعلى من جسدي (علمت من المعتقلين الآخرين أنني كنت محظوظا... ففي الفترة الأولى كان التحقيق يتم والسجين عار إلا من السروال الداخلي فقط) في ثاني أيام كانون الثاني البارد أخطو على الأرض الرطبة بجاربي الذين لم يخطر ببالي نزعهما، وأنا أحاول تلمس مواقع قدمي بجهد وحذر لأن السجان كان قد عصب عيني و وضع قيدا أحاديا في كلا معصمي الذين أمرت أن أضعهما وراء ظهري، ومن ثم كان يمسك بعضدي مرشدا لي في أي اتجاه أسير وأية درجات أهبط أو أصعد.

وأتت اللحظة التي كنت أنتظرها... السؤال الذي طرق أذناي مبددا كل حيرتي و تخبطي في معرفة سبب اعتقالي، فبعد أن قدمت نفسي يالطريقة التي تم تعليمي إياها "الموقوف همام يوسف سيّدي المحقق"... سألني الضابط (عرفت أنه كان برتبة عقيد فيما بعد، وأن اسمه "عامر العشي"): ما علاقتك بحزب التحرير؟

وتنفست الصعداء... و حدثت نفسي... "إذن هذا هو السبب... يا لهذه المشكلة التافهة... هذا أمر قديم ولاشك أنهم عندما يعرفون أنني منقطع عن الحزب منذ حوالي السنوات العشر، سيدركون تفاهة المسألة." أجبت: ليس لي علاقة معهم الآن... كان لي علاقة قديمة و انتهت. وتابع أسئلته مستفسرا عمن كان معي في الحلقة؟ وما كان اسم مدير الحلقة؟ وكيف ومتى كنا نجتمع؟ ماذا كنا نقرأ؟ وعن المبلغ المالي الذي كنت أسهم به للحزب...الخ، أسئلة تنم عن معرفة شاملة و مفصلة بدقائق الأمور، مما أكد لي احتمال صحة ظني أن أحدا من أفراد حلقتي القديمة قد تم القبض عليه لسبب أو لآخر، إلا أن هذا لم يزعجني كثيرا لأن جميع الذين كانوا معي في الحلقة كانوا قد أنهو علاقتهم بالحزب في الوقت ذاته وللأسباب ذاتها. كنت أجيب على أسئلة المحقق بالقدر الذي يكفيه و لا يورطني في أسئلة أخرى بشكل مقنع، فطوال الوقت كنت هادئا متوازنا و"متجاوبا" فما كان منه إلا أن قال لي: إذهب واكتب تقريرا بالذي قلته لي الآن.

وبعد أن كتبت التقرير الذي يبدأ بالعبارة: "تقرير الموقوف فلان الفلاني... سيّدي المحقق..." والذي لم يتجاوز نصف الصفحة (الأمر الذي أثار استغراب واستهجان السجان الذي حذرني من إغفال أي شيء؛) تم إيصاله إلى المحقق وتمت إعادتي إلى الزنزانة لأنتظر هناك يومين آخرين قبل استدعائي للتحقيق للمرة الثانية عصر أحد الأيام.

وفي هذه المرة خلعت جواربي لأنني لم أرد أن تتسخ بمياه الأمطار المختلطة بالأتربة والأوساخ... قادني السجان إلى غرفة تحقيق مختلفة بحسب تقديري (لأنني كنت معصوب العينين كالعادة،) وفي هذه المرة كان الأمر سريعا فبعد أن قدمت نفسي "الموقوف همّام يوسف سيّدي المحقق (كم كنت أكره كلمة "سيّدي" وكنت أبذل جهدا لقولها) سألني المحقق بشكل مباشر ومباغت من هما فلان وفلان؟!!

لحظتها شعرت أن جبلا قد انهار فوق رأسي وأن نارا قد اشتعلت في صدري وجففت الدماء في عروقي، وأدركت أن الأمر أكبر وأكثر اتساعا مما ظننت سابقاً، وأن الأمر سوف يستمر بالاتساع وسوف يصل إلى أشخاص ليس من المهم أو الأساسي بالنسبة للجهات الأمنية أن تعرفهم، وهم لن يقدموا أو يؤخروا في شيء بالإضافة إلى حقيقة أنهم أيضا كانوا قد أنهوا علاقتهم بالحزب بشكل مؤكد، وهم يعيشون حيواتهم بهدوء وسلام مع زوجاتهم وأبنائهم! كيف وصلت أسماؤهم إلى المحقق؟! من هو الذي تبرع بهذه الأسماء علما أنه من الممكن عدم ذكرها؟!! كيف سألتف حول الموضوع دون تعريض آخرين لهذا الذل وهذه الأساليب المتخلفة القميئة؟!!

كل هذا احتشد بتسارع تجاوز الزمن مخلفا احتقانا عالي الضغط في دماغي الذي غاب لفترة لا تزيد عن الثانيتين!! وهنا قررت أن أجيب بتساؤل علي أتيح لنفسي التفكير لثوان أخرى: من فلان وفلان سيدي؟ (وكان قد ذكر فقط اسميهما فقط دون لقبي عائلتيهما.) هنا انقلب عالمي رأسا على عقب، إذ ما أن سمع كلماتي حتى قام باستدعاء السجان بصوت الجرس الكريه وهو يقول: "ما بتعرف مين هنّن لكن... هلأ منشوف شلون رح خليك تعرف... خدو عالدولاب."

الدولاب تسمية معروفة لكل السوريين بفضل الثقافة الإرهابية الرسمية، وكانت له رهبة وغموض أسود خاص به، ورغم معرفتي ويقيني التاميين أن المحقق يعرف تماما من يسأل عنهما (وإلا كيف ذكرهما بهذا التحديد وسألني أنا عنهما، فهو لم يقل: هل تعرف...؟ بل قال: من هما... ؟ أي أنه كان يختبر مدى طواعيتي، وربما كان يريد زيادة تأكيد معلوماته -وهو ما تبين لي صحته فيما بعد- ويريد مني إقرار صحة ما لديه،) و رغم يقيني أنني بإمكاني تجنب "الدولاب" فقط بإقراري بمعرفتهما قبل أن أغادر الغرفة! إلا أنني كنت أريد لقاء هذا الغول الغامض ومجابهته وجها لوجه، وهكذا لذت بالصمت منتظرا هذا الدولاب البعبع.

لم يكن لقاءا جيدا... فبعد أن جرني السجان من عنقي خارجا، وقادني إلى زاوية ما لا أعرف مكانها أو جهتها، أمرني متلفظا بأشنع الألفاظ -التي تجود بها ألسنة أقذر مخيلة بشرية يمكن تخيلها- بالاستلقاء على بطني وثني ركبتيّ رافعا قدماي إلى أعلى بحيث يصبح باطنيهما متجها إلى أعلى، مما سهل عليه الانهيار (كانهيار الجبال) عليهما بعدد فقدت القدرة على إحصائه من الصواعق الخيزرانية التي كان أصوات حفيفها وهي تشق الهواء تختلط بأصواتها وهي تصطدم بلحم قدميي (العاريتين المبللتين بمياه الوحول) وتمتزج بصراخي و جعيري (لم أكن أتخيل أن الإنسان يمكن أي يصدر أصواتا كوحوش الغابات قبل ذلك،) ويتخلل ذلك كله أشنع الشتائم النابية التي لا يمكن لإنسان له أم أو إخوة أو أخوات أن يرضى بسماعها عن شخص آخر، فكيف عن نفسه؟!!

لم يكن دولابا كما تخيلته... إلا أنني بعد أن فقدت القدرة على إحصاء العدد، قررت الاستسلام فأخبرته باكيا (وهذا أمر يصعب الاعتراف به عادة) لشدة الألم أنني أعرف الشخصين الذين سُألت عنهما. فنهرني آمرا بالوقوف فلم أستطع وضع قدماي على الأرض بالكامل لشدة الألم، فسرت متباطئا أمشي على جانبي قدميّ كالكسيح عائدا إلى الزنزانة، فعلى مايبدو أن المهمة قد أنجزت... ولم يكن مهما أن يسمع الضابط تأكيدي بمعرفتهما في تلك اللحظة!

كتبت التقريرالمطلوب بأنني أعرف الشخصين المذكورين وذكرت أنني لا أعرف عنوانيهما الحاليين فنحن لم نلتق لسنوات، وقمت بتزويدهم بعنواني سكن أهلهما الذي أعرفه؛ وهكذا... وبعد أن مر علي يومين أو ثلاثة مع عناصر الأمن المسجونين، جاءني السجان في ليل أحد الأيام وفتح مزلاج الباب الحديدي قائلا: هيا بسرعة... إجلب أمتعتك وكل ما جئت به واخرج... قلت له: هل أخلع الحذاء؟ فأجاب بالنفي... واعترتني فرحة اجتاحتني كموجة دافئة محدثا نفسي: "أخيرا انتهى الكابوس... هاقد تم التحقق من الأمور وأنني منقطع عن الحزب لقناعة آمنت بها منذ سنوات عشر خلت، لقد أدركوا أنه من العبث محاسبة شخص آخر مختلف تماما عن ذلك الشاب الصغير، فالعقاب الرجعي الأثر أمر يكاد يكون نكته في حد ذاته... وهنا سألت السجان إن كان بإمكاني مصافحة زملاء الزنزانة مودعا، فابتسم بامتعاض: لا مانع... هيا أسرع" ففعلت ذلك وحملت معطفي الشتوي وسرت أمامه (وهو إجراء أمني منعا لاحتمال تعرض السجانين لاعتداء) متجها نحو باب مبنى الزنازين الثقيل، وتوقفت هناك منتظرا أن يفتح على حريتي الحبيبة، فما كان منه إلا أن أشار إلي قائلا: إلى أين...؟ تابع مسيرك تابع... قف أمام ذلك الباب، مشيرا إلى باب حديدي عريض إلى يساري، وقفت هناك ريثما يفتح الباب على ظلام غطى أشباح أجساد بشرية تصطف بمحاذاة الجدار وظهورها بمواجهتنا... كنت على درجة من الذهول والخيبة سمرتني في مكاني ما حدا به أن يدفعني إلى الداخل مغلقا الباب ورائي بصوت المزلاج الكريه، بعد أن خطوت خطوة واحدة إلى الأمام مما جعلني في وسط الغرفة تماما. بدأت الهامات البشرية تستدير ببطأ موجهة أنظارها إلي واقتربت الوجوه نحو وجهي بعيون يملؤها الفضول والعطش.

كانت تلك زنزانة "جماعية" تحوي 21 نزيلاً يتقاسمون مساحة تتجاوز الأمتار الستة بقليل فأبعادها كانت (220X320 سم) تفترش أرضها البطانيات المهترئة، وينيرها ضوء أصفر للمبة زجاجية معلقة عل الجدار قرب السقف... ذلك كان منزلي لشهور ثلاثة.

يمر الوقت بتسارعات مختلفة بل ومتناقضة احيانا، إذ يطير الوقت بسرعة البرق بعد الساعة الثامنة أو التاسعة مساءاً وهكذا إلى بزوغ الصباح. ثم يتباطأ بشدة مميتة منذ الاستيقاظ حوالي السابعة والنصف صباحا -موعد بدأ الدوام الرسمي وممارسة الضباط والعساكر مهامهم الرسمية الوظيفية بجلد المواطنين المعتقلين أو تعذيبهم والتحقيق معهم- إلى أن ينتصف النهار ويهل وقت الغداء في االثانية عشرة والنصف أو الواحدة؛ خلال هذه الفترة تكون أعصاب المعتقلين في الزنازين من التوتر والتحفز والهلع بحيث يمكن أن تتقصف كما لو أنها أغصان شجرة جافة.

ويزيد من القهر المعدني المصمت للثواني المتعمدة البطأ، تلك الصرخات المترعة بالألم والرعب التي يطلقها المساكين الجدد الذين كانوا يصلون على فترات، أثناء اجتيازهم جحيم الاعترافات الأولى، في مواجهة الدولاب أو وسائل وحشية أخرى لكل حسب عتبة ألمه قبل القبول بسطوة الألم الخبيثة على الأبدان والأرواح.

وما أن يبدأ توزيع طعام الغداء حتى تأخذ النفوس بالهدوء لأن التحقيق وما يلازمه من تعذيب وإهانات يتوقف كي يتمكن الجميع من تناول طعامهم! أي حوالي الساعات الثلاث أو الأربع.

كان الغداء يعد (في الغالب) في مطابخ القطعة العسكرية التابعة للمخابرات الجوية في مطار المزة العسكري حيث كان فرع التحقيق والمداهمة أيضا. ولم تكن الكميات كافية لجميع المعتقلين وغالبا ما كانت السرقات تؤدي إلى إنقاص كميات الخبز من ثلاثة أرغفة إلى رغيفين فقط للفرد، وينطبق الأمر ذاته على الزيتون والحلاوة ومربى المشمش، وأذكر على سبيل المثال كيف كانت حصة 20 رجلا من الحلاوة المخصصة لطعام الإفطار (كانت حصص الإفطار توزع في الليلة الأسبق) لا تكاد تبلغ قبضة اليد في أحد الأيام، أما الزيتون فكان نصيب المعتقل منا يتراوح مابين حبتي زيتون إلى سبع حبات في أفضل الأحوال، وكثيرا ما كنا نأكل قشور البرتقال ونتقاسمها لشدة الجوع عندما ينوبنا بعض حبات البرتقال أو الـيوسف أفندي (ماندارين.)

بعد الغداء، أي في فترة النوبة المسائية، إلى مابعد التاسعة بقليل يعود الوقت لتباطؤه القاتل المعتاد بسبب عودة عجلة التحقيق الروتينية للدوران من جديد، أي التعذيب والصراخ والضرب والشتائم والاستغاثات المفتته للأعصاب

إضافة إلى هذه العجلة الجهنمية التي تقرض المشاعر والأحاسيس وتتلاعب بسلامة العقول وتوازنها بسبب تكرارها اليومي الحتمي، من توتر إلى راحة فشد عصبي إلى استرخاء يليه ضغط، خوف وهلع يليه لحظات من الفرج تليها ساعات من الرعب والتحفز ثم النوم القلق كالسردين (ليس مجازا بل واقعا حرفيا) إلى الاستيقاظ على صوت السجان الذي يفتح الباب بقوة مصدرا صوتا إرهابيا ممقوتا ومناديا على اسم مسكين من الخراف التي غلب على أمرها؛ إضافة لكل ذلك كنا نعاني من معضلات ثلاث في فرع التحقيق:

مشكلة النوم وانتشار القمل والجرب (نظرا للتكدس وحقيقة بقائنا بلا استحمام لفترة خمسة أسابيع على الأقل)
الخروج للتغوط أو التبول (نتيجة للعدد الكبير من المعتقلين و وجود فقط أربعة كبائن تغوط للجميع)
قلة الطعام ونوعيته السيئة (العديد من المعتقلين فقدوا من 10 – 20 كغ من وزنهم)

ورغم انتقالي مع اثنين آخرين من الزنزانة الجماعية (بناءا على طلبنا) بعد حوالي الثلاثة أشهر من العيش فيها إلى زنزانة إفرادية، إلا أن المشاكل استمرت كما هي، فقد انضممنا إلى نزيل موجود قبلنا في الزنزانة واستمرت إضافة معتقلين آخرين إلى أن وصلنا في إحدى الفترات إلى سبع أشخاص في مكان مخصص لاثنين بالأكثر! وكنا ننتظر اليوم الذي يتم نقلنا فيه إلى سجن رسمي كصيدنايا، وهو ما حدث فعلا في صباح 29/5/2000.

مرحلة صيدنايا تختلف جذريا عن مرحلة التحقيق من حيث سعة المكان كمية الطعام والنظافة الشخصية، بالإضافة إلى أمر مهم جدا هو انتهاء الشد النفسي الناتج عن كل ما كانت تثيره حفلات التعذيب من رعب وقلق وجوديين، إلا أنني أستثني منها فترة الأسبوعين الأولين حيث شهدنا فيها فيضانا من الشتائم المقذعة والإهانات الجسدية والمعنوية والضرب العنيف المباشر من صفعات و ركلات و لكمات (بقيت لمدة شهرين لا أستطيع الاستلقاء على جانبي الأيمن بعد أن لكمني المدعو "فاطر" على أضلاع صدري التي أظنها كسرت في تلك الحادثة.) سبب ذلك أن إدارة السجن استقبلتنا على أننا عملاء وجواسيس للعدو الصهيوني وأننا منتمون إلى جماعة الإخوان المسلمين!! ولم يتم إعلامهم بحقيقة أمرنا وأننا كنا بنسبة 50-60% من الجامعيين و حتى من حاملي شهادات عليا في الجراحة و الهندسات والصيدلة... الخ، وكنا نمتنع عن إخبار عناصر الشرطة العسكرية بذلك تجنبا لزيادة الإهانات والقهر عندما يعلمون أننا تجاوزنا البكالوريا بنجاح!!

تغير هذا الوضع بعد قدوم اللجنة الأمنية التي قابلت عدة أفراد رشحوا لذلك، حيث أعلموا أعضاء اللجنة أننا ( حوالي الـ 250- 300 ) موقوفون على ذمة حزب التحرير الذي لا علاقة له بالإخوان المسلمين أو أعمال عنف مسلحة أو غير ذلك (لم يتم العثور على قطعة سلاح واحدة لدى أي من المعتقلين الذين قارب عددهم الـ 450 توزعت أماكن احتجازهم ما بين فروع التحقيق والمنطقة وإدارة المخابرات الجوية.) بعد هذا اللقاء تحول وضعنا من موقوفين على ذمة التحقيق إلى سجناء رسميين! فقط بقرار من اللجنة وليس نتيجة محاكمة! وهكذا منحنا كل ما يمنح للسجين الرسمي ورفعت عنا المعاملة المتوحشة بعد حوالي الأسابيع الثلاثة. هذا كان يعني فتح المهاجع العشرة التي يتألف منها الجناح ( - أ- يسار، الطابق 3) على بعضها طيلة النهار، الحصول على المشتريات و فترات التشميس في الباحة وقراءة الجرائد الرسمية وبعض الكتب المتوفرة.)

المحكمة
تمت جدولة أسمائنا للمثول أمام محكمة أمن الدولة على دفعات وقد كانت المحاكمات تسير على نظام 3 مراحل التحقيق، توجيه الاتهام، ثم جلسة النطق بالحكم. تم عرض الجميع على المحكمة بالنسبة للمرحلة الأولى، و تمت متابعة المرحلة الثانية مع أعداد قليلة ولكن لم تكتمل بالنسبة للجميع بسبب صدور عفو بشار الأسد الشهير بتاريخ 16/11/2000، والذي عفا بموجبه عمن قد تجاوزوا فترات أحكامهم المفترضة! ( إذ كان من المنتظر الحكم على كل من تشبه حاله حالي -أي الغير حزبيين- بستة أشهر بتهمة كتمان المعلومات!) وهكذا أطلق سراحي بعد مرور العام تقريبا على اعتقالي.

الاحتكاك مع بقية المعتقلين
مما لفت انتباهي من خلال احتكاكي مع معتقلي حزب التحرير -الراهنين حينئذ- أن السوية الثقافية الحزبية وسوية المحاكمات العقلية العلمية والمحاججات المنطقية قد انخفضت بشكل ملحوظ عما كنت عرفته قبل تسعة أعوام، وقد عزوت هذا إلى حقيقة اعتقال عدد لا بأس به من أعضاء الحزب المهمين في بداية التسعينات وانسحاب عدد ملحوظ من الدارسين في ذلك الوقت، مما دفع الحزب حينئذ إلى انتقاء قيادات بديلة بشكل إسعافي لم يتوخ الحرص على سوية ثقافية أو علمية عالية كما هو المألوف عادة، مما أدى إلى تحويل نشاط الحزب بشكل أكثر مما مضى إلى زيادة الانتشار الأفقي بتسارع كبير عاد بأثر سلبي على سوية التحصيل والبناء الثقافي الفردي، أي بكلام آخر أن الحزب عمل بشكل واضح على زيادة أعداد الموالين له على حساب إعداد نخبة قيادية راسخة، الأمر الذي كان موجودا دائما ضمن النهج العملي للحزب إلا أنه لم يسبق له أن كان على الشكل المرضي الذي خبرته.

وأيضا قد يعود تقييمي السابق للسوية المتواضعة لأعضاء حزب التحرير ولاية سورية إلى حقيقة استمراري بالاحتكاك أكثر وأكثر بعالم الفكر ووجهات النظر والتحاليل المختلفة للخلل الذي يعاني منه العالم الإسلامي، والانفتاح الفكري الكبير على جميع الطروحات المتواجدة على الساحة والتي تنوعت مابين الإسلامي و اللا إسلامي والليبرالي والمحافظ والعلماني.... الخ.

نتيجة لكل ما سبق فقد كان الاحتكاك مع الحزب يتراوح مابين النقاش الفكري للجذور المفهومية التي بنى عليها الحزب هيكله الفكري، وما بين المشاحنات الكلامية والمواقف المتصلبة العدائية التي تولدت نتيجة تصنيفي مع مجموعة من الأشخاص على أننا نشكل خطرا فكريا ويجب نبذنا! إلا أن هذه الفترة أتاحت لي اختبار جميع المفاهيم التي كنت أحملها كمسلم "لا عنفي" والتي كنت أعيشها و أطورها بناءا على ما اكتسبته من المفكر جودت سعيد ومالك بن نبي بشكل أساسي وفكر المقاومة المدنية بشكل عام، وكان من نتيجة ممارستي لحياتي وسلوكياتي بناءا على هذه القناعات أنني تركت السجن وقد اكتسبت من الأصدقاء والمتعاطفين العدد الكثير رغم إدراكهم بشكل واضح لا يخالطه شك أنني مختلف عنهم.

الشيء المهم الذي لا يجب أن يتم تناسيه هو وجود براعم تيار إسلامي تنويري متحرر قادر على التواصل مع الأطراف جميعها، الإسلامية وغير الإسلامية التي تنشط في الساحة السورية والعربية بشكل أوسع، تيار يعتقد أن «ما ينفع الناس يمكث في الأرض، وأما الزبد فيذهب جفاءا» كقاعدة تحكم جميع مشاريع النهضة والإصلاح أو التغيير، تيار يعتقد أن «العدل» و «النفعية» هي المقدسة وليس الأشخاص الكلمات أو الحروف بحد ذاتها. هؤلاء كانوا بعض الذين التقيت بهم هناك.

وللمفارقة بعضهم أيضا كان من «التيارات العلمانية» الذين كنت أستطيع وأستمتع بالحوار معهم على عكس معظم من كانوا حولي من المنتمين إلى التيارات الإسلامية التي تحجرت على تقديسها لقادتها أو مشايخها بشكل أعمى ومنزه عن النقد الذاتي الضروري لأي حركة تتوخى البقاء والتطور، بمن فيهم حزب التحرير الذي قدس النبهاني لشخصه لا لإبداعه و قدرته على الاجتهاد، والله أعلم.


<>- كيف اختلف همّام ما بعد الاعتقال عنه ما قبل الاعتقال؟ وكيف تقيم تلك التجربة بمجملها بعد هذه السنوات على مرورها؟

لا أظن أن هناك تغيرا كبيرا حصل لي إلا من باب تقديري للحياة بأبسط جوانبها وتفاصيلها التي غالبا ما نمر عليها كما لوأنها أمرا اعتياديا. إن مراقبة السماء لحظة غروب الشمس أمر لن يشعر الإنسان بجماله مالم يحرم منه أو يراه من خلال قضبان الأسر، وتصبح قدرتنا على التغوط أو التبول لحظة حاجتنا له أمر غير مفروغ منه كما نعتقد.

ما يجب أن نعرفه عن السجين والمعزول في زنزانة إفرادية على وجه الخصوص هو أنه يموت في اليوم الواحد بعدد المرات التي يوقظه بها الوعي المفاجئ على حقيقة قبوعه ما بين أربعة جدران صماء لم ولا ولن تتغير مهما طال زمان بقائه بين جوانحها.

ولا أدري في الحقيقة أين يمكن أن أضع تجربة إعتقالي الماضية على وجه الدقة، لكن ما أعرفه هو أن الإنسان مستعد لأن يدفع ثمن أفكاره وقناعاته التي يحملها مهما بلغت هذه الأثمان، ويستوي في هذا المنتمين إلى التيارات جميعها على اختلافها بل تناقضها أحيانا. إلا أن الاطمئنان الذي يحمله "اللا عنفي" في داخله أمر لا يقدر بثمن. إن قدرتنا على كسب ثقة من نختلف معه بنا وبمصداقيتنا هي أحد أهم المقاييس لنجاح الحراك المدني الذي نعتقد بصحة توجهه.

تجربة الاعتقال والسجن لم تكن خيارا بل قضاءا من الله، وأنا إن لم أستطع إدراك تتالياتها أو ما سينبني عليها مستقبلا فهذا لم يمنعني من عيشها بالشكل الذي ارتضيته لنفسي، إلا أنني لا أرغب بتكرارها ثانية وهذا أمر فطري مفروغ منه.

<>- إذا قررت الانتساب لحزب سياسي الآن، فهل سيكون حزب ديني؟ ولماذا؟ وكيف تنظر الآن إلى تجربة الإسلام السياسي؟

إن كان هناك من حزب أرتضي الانتماء إليه فسيكون حزبا قريبا من نموذج حزب العدالة والتنمية التركي. إن طبيعة إيماني بالإسلام كفلسفة حياة وكون لا تخلق تضاربا أو تناقضا ما بين الإلهي والموضوعي وهما بالنسبة لي وجهان لعملة واحدة. إن الإيمان بالله بالنسبة لي يعني الإيمان بالحرية كشرط لازم غير كافي للتنمية والعطاء والعدالة.

ما يصنف اليوم على أنه إسلام سياسي هو تعبير موضوعي عن فكر وثقافة موجودان موضوعيا ويجب الاعتراف بهما، وكان يمكن لتيارات الإسلام السياسي الحالية أن تجد نفسها على المحك إن أتيح لها الوجود والحراك إلى جانب مجموع التيارات الأخرى العلمانية الليبرالية اليسارية ....الخ، إلا أن القمع والمنع والإقصاء سيؤديان في النهاية إلى تفجر عشوائي مدمر سيأخذ معه الأخضر واليابس. ومن غير شك أن تصلب بعض تيارات الإسلام السياسي في رفضها للعملية الديموقراطية من حيث المبدأ كحزب التحرير على سبيل المثال لا الحصر، تخلق لنفسها كابحا ذاتيا سيزيد من احتقانها الداخلي وبالتالي يزيد من تشنجها وتمسكها الشديد بمواقفها الإقصائية المتطرفة للآخر المختلف.

ويتضاعف القلق من كوارث تفكك بل اصطراع تناقضات مجتمعيه داخلية؛ إن تلاقت تطلعات الشريحة الأكبر من شرائح المجتمع السوري، وأقصد بها الطائفة السنية تحديدا، للحرية والعدالة والتنمية والرخاء، مع الوعود المعسولة التي تبثها اتجاهات سياسية تنتمي إلى الخلفية الدينية المشتركة ذاتها دون أسس موضوعية منطقية قابلة للتحقيق، وخصوصا في أجواء القمع والقهر وكم الأفواه والآمال وانعدام فرص التعبير عن الذات في جو من الحريات الأساسية العامة. هذا اللقاء ما بين إحباطات مكبوته وبين تشدد وتشنج إتجاهات إسلام سياسي إقصائية هو الأمر المخيف والمحذور. والوضع السياسي القائم من أبعد ما يكون عن تقديم حل ناجع إن لم نقل أنه يسهم بشكل مثابر على تكريس هذا التأزم ومن ثم التهديد بتفجيره بغباء سياسي يتناسى أن قوة الانفجار ستطيح بالجميع بمن فيهم من سيحرر عتلة التفجير.

ليس كون الأحزاب دينية أو لا دينية هو المشكلة، الخطر يكمن في الثقافة الإقصائية الشمولية التي تعاني منها المذاهب أو الاتجاهات أو الجماعات و الطوائف و الحركات و حتى العلمانية منها.

Friday, June 22, 2007

تجربتي المنقضية مع حزب التحرير وتداعياتها - الجزء الثاني

وكان لطروحات جودت سعيد ومالك بن نبي ومفكرين آخرين كمحمد عابد الجابري ومحمد شحرور ومعظم المفكرين الذين كانوا يشيرون إلى أن الخلل حقيقة ليس في السلطة السياسية من حيث الجذر، بل بالأفكار والعقل المريضين الذين سينتجا مرة بعد الأخرى جميع الأمراض التي نعاني منه كمجتمعات مسلمة، بما فيها الدكتاتورية والفرقة الداخلية والقابلية للاستعمار الداخلي والخارجي الأثر الكبير على تفكيري الجاد بالانسحاب


<>- كيف كنت تنظر للأحزاب العلمانية (التي كان معظم كوادرها في السجن) في ذلك الوقت؟ هل تسنى لك أي احتكاك معها؟

بدابة سأبني على أن المقصود بالعلمانية هو المفهوم الممتد من الفصل مابين الدين والحياة إلى إنكار الدين بالدرجة القصوى. على أقل تقدير كانت الأحزاب العلمانية –الاشتراكية والشيوعية- مرفوضة إن لم أقل محاربة من الأوساط والاتجاهات الإسلامية. وأذكر هنا استغرابا كان موجودا (وربما هو موجود الآن لدى الكثيرين) أن هذه الأحزاب تخاطب وتحاول أن تفرض على مجتمعات دينية خطاباً ومشروعا سياسيا غريبا عنها بل هو أقرب إلى عملية زراعة كبد بقرة في جسد قطة.

بالإضافة إلى القناعة الشخصية تلك آنذاك، فإن ما طرحه فكر حزب التحرير حول المبدأين الرأسمالي والشيوعي (ضمنا الاشتراكي) هو وصف لمدى اختلاف وفشل وخطأ مقاربات هذين الاتجاهين لأسئلة العقدة الكبرى: من أين؟ ولماذا؟ وإلى أين؟ أو التساؤلات الإنسانية عن الإنسان، الكون والحياة؛ على عكس الدين الإسلامي الذي (بناءا على طرح الحزب) استطاع الإجابة على تلك الأسئلة بشكل يرضي ويروي عطش هذه التساؤلات بشكل فطري.

أيضا يضاف إلى ذلك مسألة الارتباطات الخارجية لتلك الأحزاب بحكم نشأة الفكر العلماني ككل، حيث استخدم الحزب هذه الارتباطات لتقويض شرعية هذه الأحزاب وبالتالي إقصاءها من التواجد في ساحة العمل الإجتماعي السياسي بشكل جذري في أدبياته، ولا يخفي حزب التحرير رفضه لوجود الأحزاب العلمانية ضمن جسد "الدولة الإسلامية" حال تحققها، فالآخر بالنسبة له هو الآخر المنبني على الأساس الديني الإسلامي فقط.

ومن المفيد ذكره هنا أنني لم يسبق لي قبل معرفتي للحزب أو أثناءها أن التقيت بمن يحمل أفكارا علمانية في إطار جهود تنظيمية أو من يدعو إليها، فأستطيع القول أنه لم يتسن لي الاحتكاك بأحزاب علمانية مطلقا.


<>- هل من الممكن تزويدي بوصف مكثف لتجربتك في الحزب؟ ما ذا كان دورك، كيف كنت تنظر إلى ذلك؟ إلى أي مدى وجدت نفسك والتقت قناعاتك مع فكر هذا الحزب؟


تكاد تجربتي في الحزب تقتصر على القراءة ومطالعة الأنباء وتحليلها بالإضافة إلى الدراسة المنتظمة لكتب الحزب ضمن الحلقة المعدة لذلك، وكنت قارئا نهما فما أن يصلني كتاب من كتب الحزب (التي كنا نشتريها بمبالغ معقولة) حتى أبادر إلى قراءته ملتهما إياه في أيام معدودة، وكذلك الأمر بالنسبة لمجلة عنوانها "الوعي" كانت تصدر غالبا في لبنان بجهود "الشباب" (كما كنا أحيانا نطلق على أعضاء حزب التحرير) اللبنانيين، معظم هذه المطبوعات كانت تصلنا منسوخة على الناسخة الضوئية.

إضافة إلى ما سبق ونتيجة لحماستي الشديدة للحزب وأفكاره التي كانت تتمتع بترابط منطقي وحجة بليغة قويين، كنت أحاول بث هذه الأفكار فيمن حولي من الأصدقاء والمعارف، دون التصريح بمصدرها إلا لمن كنت واثقا من رجاحتهم وأمانتهم، وهؤلاء كنت أحاول جذبهم للانخراط بشكل عملي في دراسة كتب الحزب ومنهاجه كما كنت أفعل أنا نفسي -على مبدأ "أحب لأخيك ما تحب لنفسك."

لم يكن هناك أنشطة تربوية خاصة يقوم بها الحزب، وهو يرفض فكرة الرعاية الفردية وبناء الفرد الأخلاقي والنفسي بجهد يقوم عليه الحزب، ويفضل أن يقوم الفرد نفسه بهذا الجهد بشكل ذاتي لتزكية نفسه، وهكذا فقد كان الاحتكاك مع الحزب هو من خلال حلقات الدراسة تلك ومناقشة أفكار الحزب ومنهاجه (الذي يركز بشكل أكبر على تنمية الوعي والولاء السياسي لهدف استئناف الحياة الإسلامية في مجتمع تحكمه الدولة الإسلامية،) بالإضافة إلى متابعة الأحداث الجارية عالميا و تأثيراتها المحلية. لاشك أن هذا التركيز على الحس السياسي والقدرة على الاستقراء السياسي قد أفادت في تنمية هذا الجانب عند كل المنتمين أو الحاملين لفكر الحزب، إلا أن هذا لم يلب بشكل كاف رغبة العديد ممن عرفتهم خلال تلك الفترة بإشباع الحاجة إلى الروحانيات والأنشطة التي تغذي النفس بالطاقة اللازمة.

أنا بحكم وضعي كـ "دارس" لم أكن مكلفا بأي نشاط خارج عن الدراسة بحد ذاتها، فلم أكن أحمل المنشورات السياسية أوالبيانات لتوزيعها. وكما قلت سابقا أنا لم أكن أعتبر حزبيا بالمعنى التنظيمي، وهكذا فلم يكن من حق الحزب أن يطلب مني القيام بأي نشاط، أما حقيقة حملي لأفكار الحزب و الدعوة لها ومناقشتها و نشرها بين من كنت أثق بهم من الأصدقاء أو الأقارب فكان بمحض اختياري وحريتي الشخصية.


<>- هل غادرت الحزب قبل أو بعد الاعتقال؟ كيف، ولماذا؟

الحقيقة لا أدري إن كان إنهاء علاقتي الدراسية مع الحزب يمكن وصفها على أنها مغادرة، فحقيقة الأمر أن صلتي بالحزب –رغم إيماني وحماستي له ولأفكاره وأهدافه في البداية- لم تتعد المرحلة التي يطلق عليها المرحلة التثقيفية وخلالها لايعتبر الشخص –رجلا أو امرأة بالمناسبة- حزبيا ويطلق عليه تسمية "دارس،" فمن الناحية التنظيمية هذا الشخص مازال غير منتسب رسميا إلى الحزب ويحق له أن ينسحب في أي لحظة يراها هو مناسبة، ولم يسبق أن كان لانسحابات كهذه تداعيات أو إشكاليات على ما أعلم.

أما إنهاء علاقتي مع الحزب فكانت في عام 1991، إذ أبلغت "مدير الحلقة" (الشخص الذي يقوم على تثقيف الدارسين) آنذاك بقراري إنهاء الصلة، طبعا كان هناك اضطراب بسيط من طرفه إلا أنه كان نوعا ما يتوقع هذا الأمر، خاصة وأن نقاشات كثيرة حول أفكار تأسيسية لحزب التحرير كانت تجري بشكل متكرر، وكنت أعبر فيها عن تغير قناعتي تجاهها؛ وأذكر أنه هيأ للقاء مع شخص آخر لم يسبق لي أن التقيته قبل ذلك في محاولة لمناقشة قراري ومحاولة إقناعي بالعدول عنه. هذا اللقاء لم يغير أو يؤثر على عزمي بإنهاء العلاقة، فقد كانت الأفكار التي جدّتْ لدي و كنت أحملها وأومن بها بما يتعلق بالتغيير الاجتماعي والسياسي، لا يمكن لها أن تتوافق أو تتعايش مع أفكار صميمية و تأسيسية يعيشها الحزب بشكل عملاني.

بعد أن شرحت لممثلي الحزب موقفي وأفكاري الجديدة التي أومن بها شعرا بجدية وصدق خطابي لهما، واستطعت أن أبين لهما حقيقة امتناني واعترافي بالفضل لحزب التحرير في توسيع أفق تفكيري و تزويدي بمفاهميم وإضاءة زوايا من العمل والحراك الاجتماعي السياسي لم يكن لي أن أصل إليها بمفردي، إلا أن هذا لا يعني استمرار صلتي بهم فالأمر بالنسبة لي هو مفترق طريق. عندها قال لي: حسنا... يبدو أن قرارك نهائي، على كل حال... أدعُ الله لنا بالتوفيق؟ فأجبته: من طرفي سأدعو لكم... لكن ظني أن الله لن يوفقكم. وصافحتهما مودعاً. كان هذا قبل اعتقالي بحوالي تسع سنوات على ذمة تلك الصلة القديمة!!

نأتي الآن للإجابة عن لماذا؛ بشكل أساسي و دون الخوض في التفاصيل، كان الشيئين أو المفهومين الأساسيين الذين تغيرت قناعتي تجاههما ومن ثم بناءا عليه قراري بالانسحاب هما "العمل السري" وما يطلق عليه "طلب النصرة،" وقد كان لاحتكاكي و متابعتي للمفكر جودت سعيد و طروحاته الأثر الأساسي في تغيير هذه القناعات، بالإضافة إلى إدراكي لحقيقة أن تغيير الواقع الذي نعمل على إصلاحه وتحسينه لا يأتي بتغيير شكل السلطة أو بالإتيان إلى رأس الهرم وتغييره على أمل أن تعكس القاعدة هذا التغير بشكل أوتوماتيكي، وكان لطروحات جودت سعيد ومالك بن نبي ومفكرين آخرين كمحمد عابد الجابري ومحمد شحرور ومعظم المفكرين الذين كانوا يشيرون إلى أن الخلل حقيقة ليس في السلطة السياسية من حيث الجذر، بل بالأفكار والعقل المريضين الذين سينتجا مرة بعد الأخرى جميع الأمراض التي نعاني منه كمجتمعات مسلمة، بما فيها الدكتاتورية والفرقة الداخلية والقابلية للاستعمار الداخلي والخارجي الأثر الكبير على تفكيري الجاد بالانسحاب. ووصلت إلى النتيجة التي تقول أن الخلل هو في العقل و بنية العقل لدى الأمة، أما السلطة السياسية فما هي إلا انعكاس لما تحمله الأمة وثقافتها من أفكار ومن ثم تعكسها طبيعة هذه السلطة مجددا على الأمة، ورغم أن الجدل (الديالكتيك) موجود ما بين قطبي الأمة و السلطة، إلا أن التغيير الجوهري يجب أن يحدث في الأمة.

والحال كذلك فإن "طلب النصرة" الذي يمكن أن أشرحه ببساطة بأنه طلب دعم مراكز القوة في الهيكل السياسي للمجتمع الذي ينشط به الحزب، وهو بناءا على قناعة الحزب يكمن في القوة العسكرية للجيش وجنرالاته في معظم البلدان التي يتواجد بها الحزب؛ وهذا يعني بساطة أن الحزب يهدف و ينشط عمليا –رغم أن الحزب يولي أهمية لعملية تثقيف الأمة- في طلب السلطة عن طريق الانقلابات العسكرية، أي احتمال العنف الداخلي موجود بشكل كبير ومتوقع، وهذا كان مرفوضا بالنسبة لي، لأنه في النهاية يعيد تكرار مأساة فرض أنماط الأفكار والحياة على المجتمع بقوة السلاح والعسكر لا بقوة الأفكار والمباديء وهذا سبيله إلى الزوال.

وكل ما سبق يترافق مع "العمل السري" بشكل لازم، الأمر الذي تعيه السلطة الحاكمة بشكل متيقظ دائم التحفز ، لا بل و تستخدمه للصيد في المياه العكرة ففي الظلام يسهل اتهام أي ناشط بجرائم ضد الدولة والمجتمع دون أن يكون له القدرة أو السند الاجتماعي الذي يعينه على ضحد ما يمكن أن ينسب إليه، ويحرمه من احتواء المجتمع له ولنشاطه بما يضمن استمرار تأثره به، إضافة أنه قد سبق لمحاولات إنقلابية قام بها الحزب أن باءت بالفشل باعترافه، وهذا كان طريقا مسدودا بل جدارا أصر الحزب على أن يحطم نفسه عليه مرة تلو المرة دون جدوى!

وأذكر من مقابلتي الأخيرة لعضو حزب التحرير، عندما سألني إن كان هناك أمر يمكن أن يقوم به الحزب ويجعلني أعدل عن قراري يالانسحاب؟ أنني أجبته: نعم... هناك، إن أعلن حزب التحرير في جميع الوسائل الإعلامية الممكنة أنه تخلى عن طلب السلطة وأنه سيخرج من العمل السري إلى العلنية فسأعود عن قراري! مقتل حزب التحرير هو في طلب السلطة عن طريق الانقلابات العسكرية أي العنف، وفي العمل السري. وأنا لم أكن مستعدا للاستمرار بالسير في طريق نهايته الفشل حتى إن واتته رياح ما ونجح!

Thursday, June 21, 2007

ماذا عن الجولان؟

أحد المواقع التي تستأثر باهتمامي [ كرييتف سيريا] طالب من يرغب من المشاركين الإجابة عن السؤال التالي: "لو كنت ستكتب رسالة من صفحة واحدة لمواطن إسرائيلي لا يعتقد أن على حكومته إعادة الجولان لسورية، فما الذي ستقوله له/ لها؟"

تم نشره على الموقع (بالإنكليزية) وتجدونه ---> هنـــــا

وفيما يلي جوابي الأصلي بالعربية...

لم يتوجب على إسرائيل أن تعيد الجولان إلى سوريا؟!


هو سؤال من البدهي الإجابة عنه لدرجة الغموض!... وما الذي يمكن اقتراحه بالمقابل؟... أعتقد أنه استمرار الحرب والكراهية والحقد والضغينة... لكن مالذي يضمن للإسرائيليين أن كل هذه المشاعر ستختفي بمجرد عودة الجولان إلى سورية!... لا ضمان! ولايستطيع أحد أن يكفل أو حتى أن يتشدق بالحديث نيابة عن جميع المتألمين والغاضبين من العدوان العالمي على الرجل المريض والذي تبلور واتخذ هيئة على شكل دولة هجينة تم زرعها في جسد ضعيف أنهكته تتاليات حقب القهر والتخلف. إذا... علينا أن نتحلى بالشجاعة كي نقوم بفعل ما هو صحيح بغض النظر عن أي شيء آخر.


هل كلامي غير مفهوم؟ هل أحاسيسي غير ذات قيمة؟ وماذا لو كنت عينة من ملايين؟!


علماء النفس يقولون أن الطفل الذي يصفعه أبوه في ثانية يحتاج لستة أشهر كي يستعيد توازنه ويستعيد ثقته بمن صفعه! فكم برأيكم يحتاج السوريون، إن لم نقل العرب كي يستعيدوا توازنهم وثقتهم بالمجتمع الدولي الذي أسهم في إيجاد الكيان الدخيل، وما يزال يسهم في تمزيق الجسد العربي الحي ويقتطع من لحمه الرطل بعد الآخر!


هل قضية الجولان حكر على السوريين كي يبتوا فيها هم وحدهم، وهل قضية القدس و فلسطين حكر على الفلسطينيين كي يبتوا بها وحدهم أيضا؟! بالطبع لا! منذ اللحظة الأولى التي بدأ فيها تهجير السوريين عامة والفلسطينين خاصة من أرض فلسطين، والعرب جميعا يدفعون كلفة هذا العدوان الوقح على أبسط وأوضح الحقوق الإنسانية، الحق بأن لا يطردني أحد من بيتي وأرضي فقط لأنه يستطيع ذلك و لعدم قدرتي على التشبث بحقوقي!


لماذا يحق للحركة الصهيونية الادعاء بحق اليهود التاريخي العودة إلى "أرض الميعاد" التي لم ينسوها طيلة آلاف من السنين ولا يحق ذلك للعرب المسلمين وغير المسلمين الذين أيضا عاشوا على هذه الأرض ذاتها أيضا لآلاف من السنين؟! ومن قال أن هؤلاء النصارى و من ثم المسلمين ليسوا أساساَ و بنسبة كبيرة من جذور يهودية، واختاروا أن يؤمنوا بالمسيح و من ثم اختاروا أن يؤمنوا بمحمد؟! من قال أن الفلسطينيين لم تكن جذورهم يهودية أو على الأقل نسبة كبيرة منهم وبفعل التحولات التاريخية الطويلة استمروا بالبقاء في أراضيهم و تغيرت معتقداتهم فكان منهم المسيحيون والمسلمون، وهم كانوا دوما أصحاب الأرض وما زالوا!


عندما تم تهجير الفلسطينيين أصحاب الأرض بشتى الطرق الوحشية من مجازر و تجويع و تهجير وحصار، هم كانوا ليس فقط من الجيل الرابع أو الخامس الذي ولد على تلك الأرض، هم كانو من الجيل ما بعد الخمسين ربما! إلا أن هذا يتم تناسيه عندما نشعر بالأسى للجيل الرابع أو الخامس الذي ولد على أرض لم تتوقف فيها حرب الاحتلال والاستيطان والتهجير منذ بدأت عصابات الهاغاناه والشتيرن بحصد أرواح العزل السذج قبل ما يقارب الستين عاماَ!! فما نقول لأصحاب الأرض؟! ما نقول لهم! ما نقول!


أنستجدي الجولان؟... لمَ؟ وهل نظام الحكم الذي سلم الجولان لقمة سائغة وعلى طبق من ذهب لإسرائيل مهتم فعلا بعودة الجولان؟ أو بالحياة الكريمة لأهل الجولان؟ لم هذا الاستخفاف بعقولنا؟ لا أدري!


ما أقوله لمن يملك القليل من الضمير والعقل السليم ممن يقال له "مواطن إسرائيلي" هو:


إن أعاد المحتل الأرض التي اغتصبها بشرعية قانون الغاب إلى أصحابها فهذا فعل إنساني بديهي ويحمل مصداقيته في نفسه، فالدليل على سطوع الشمس هو سطوعها بحد ذاته، أما إن احتاج النهار إلى دليل على أنه نهار فهنا الطامة الكبرى! إن القيام بالفعل الذي تعارف البشر جميعا على صحته وشرعيته جيلا بعد جيل أحقابا من بعد أحقاب ودهرا بعد دهر ، أمر لا يُنتظر مقابله الشكر والعرفان بل هو الأمر البدهي الطبيعي، وعكسه هو الأمر الهجين.


وإن أصر المحتل على غصب الحقوق والأرض بغير الحق، فما نقول إلا... بؤسا للبشرية التي لم ترق بعد للسوية التي تحفظ دماء وأموال وحقوق وأعراض بعضها البعض! ولكن هي دورة التاريخ ستدركنا وتجرفنا بحتميتها إن لم نختر أن نكون فاعلين وليس منفعلين! وإسرائيل تحفر كل يوم قبرها بيديها بكل إخلاص وتضحية، والتاريخ يضحك ويذرف الدموع في الآن ذاته على المأساة الكوميدية السوداء التي حشر بني آدم أنفسهم في زاويتها.


إن أرجعتم الجولان أحسنتم لأنفسكم وإن لم ترجعوها فقد أسأتم لأنفسكم قبل أن تسيئوا لغيركم وإن لم نستطع اليوم أن نحصل على حقنا، فسيأتي زمن يمنحنا القوة ويتواطأ معنا كما تواطأ معكم لكن الذي سيدفع الثمن من إنسانيته وجوهره هو كلانا، نحن وأنتم... كما ندفع اليوم جميعنا على وجه هذه البسيطة ثمن ضيق الأفق وقلة الصبر واتباع الأهواء والأطماع وطاعة أهل الجشع الذي لا ترويه كل دماء المعذبين!


ونفس وما سوّاها

فألهمها فجورها وتقواها

قد أفلح من زكاها

وقد خاب من دساّها

Saturday, June 16, 2007

تجربتي المنقضية مع حزب التحرير وتداعياتها - الجزء الأول

قراءة في صفحات الذاكرة ...لقاء مع معتقل سياسي سابق

قليلة هي القصص الواقعية التي نسمعها أو نطالعها حول ناشطين سوريين سبق لهم أن خبروا تجربة الاعتقال السياسي المترتب على انتمائهم لتيارات إسلام سياسي محظورة كما هي الحال بالنسبة لحزب التحرير. ورغم أن من نلتقيه اليوم يرفض وضع تجربته الفكرية والثقافية الحراكية وتأطيرها وتلوينها بلون أحادي (حزب التحرير) خصوصا عندما نعلم أن فترة احتكاكه مع الحزب المذكور تعد من الخبرات القديمة والمنتهية عمليا بالنسبة له؛ إلا أن تسليط ضوء النقد على تجربة كتلك بسلبياتها وإيجابياتها هو أمر نحتاجه لمعرفة المزيد عن آليات وأنماط ثقافية واجتماعية وما رافقها من ظروف موضوعية خارجية أدت وربما ما تزال حتى الساعة إلى ازدياد أعداد المنخرطين أو المستطلعين للالتحاق بصفوف تيارات الإسلام السياسي المتنوعة والمتفاوتة، والتي يتنامى تأثيرها و تواجدها بشكل محسوس في أوساط المجتمعات العربية المتدينة، وخصوصا بعد أن وصلت خطابات وشعارات بقية التيارات إلى حالة من العطالة إن لم نقل العقم بل و حتى في بعض الحالات إلى الخيانة التامة لنفس المبادئ التي بنت خطابها وأرضيتها الجماهيرية عليها.

همّام يوسف هو صاحب القصة التي سنتابع بعض تفاصيلها هنا، ولا يخالطنا الشك أن ما طرحناه من أسئلة ليس الغرض منه اختزاله إلى أبعاد محدودة تفرضها طبيعة الأسئلة، بقدر ما هي بوابة للولوج إلى "كون" هذا الفرد وتقاطعات عالمه مع العالم الخارجي بل مع عوالم جميع الذين أحاطوا به وما زالوا.

ولد همّام لأسرة متدينة قارئة متعلمة، ونشأ في مدينة دمشق وتعلم في مدارسها وعاش في أجوائها، أنهى دراسته الجامعية في كلية الهندسة المعمارية في جامعة دمشق في أوائل التسعينيات. وكان اعتقال والده في أوائل الثمانينيات هو المرة الأولى التي يختبر بها تجربة الاعتقال السياسي، ومن ثم جاء اعتقاله هو نفسه في نهاية عام 1999 ليضعه في خضم هذه التجربة. يؤمن همّام بمبدأ اللاعنف والتغيير السلمي على الصعيد الاجتماعي/ السياسي، ويؤمن ويدعو إلى "إيجاد الآخر" فضلا عن القبول به، وما يزال يتمسك بجذوره الإسلامية وكتابه المقدس "القرآن الكريم" بل يعتبر هذه الجذور أساسا راسخا يكرس العدل والسلم والتنمية، بل بوابة واسعة لحرية الإنسان في مختلف أوجهها.

لهمّام مدونة على الشبكة العالمية يودع فيها من آن لآخر ما يعبر عن بعض ما يعتلج في صدره أو ما يراه ضروريا لتكريس ثقافة الانفتاح والقبول بالآخر، إضافة إلى بعض رؤاه في ما يجري من حوله على الساحة السياسية والاجتماعية.

لأسباب مختلفة وخياراته الخاصة يعيش همّام مع زوجته التشيكيّة في براغ، ويتابع من بعد ما يجري في وطنه سوريا ويحاول البقاء على تواصل مع ما يجري هناك تعويضا عن رغبة دفينة بالعودة لا تبارح أفئدة جميع المغتربين عن أوطانهم. إليكم هذا اللقاء.


<>- من كان همّام قبيل تفكيره في الدخول إلى الحزب أو انجذابه إليه؟ عمرك، اهتماماتك، خلفيتك الفكرية، وضعك العائلي والاقتصادي.

كنت في الثامنة عشرة حينها في بداية دراستي الجامعية، وكان التفكير في التغيير أو فعل شيء ما للوقوف في وجه الظلم والبؤس موجود دائما في ذهني ومنذ الصغر حقيقة، فبسبب المفاهيم التي نشأت عليها... أن المسلم يجب أن يهتم بأمور المسلمين ويسعى لنهضتهم ونصرتهم، ولأن والدي سابقا كان من الناشطين إسلاميي التوجه المعروفين، وبسبب تأثيره الكبير على من حوله، حيث استطاع أن يسخر قدرته الأدبية ككاتب إضافة إلى معرفته التاريخية كمؤرخ والعملانية الموضوعية كناشط، في غرس أفكار التمرد على الظلم والقهر في من حوله، وبالأولى أبناءه. ورغم أنه اعتقل إلى غير رجعة -الشيء المألوف عن معتقلي الثمانينات في سورية، رغم أنه لم يكن من الإخوان المسلمين بالمناسبة- عندما كنت في العاشرة، إلا أن تأثيره كان قد نقش في الحجر كما يقال، وربما جاء اعتقاله ليكرس التمرد لدى أبناءه ولدى جميع الذين عرفوه وأحبوه. وقد قيض الله طوال الوقت من يهتم بي كناشيء ويعمل -حسب فهمه واستطاعته- على أن أستمر في العيش والنمو بناءا على الأسس والمفاهيم التي أراد والدي أن أنشأ عليها، كحسن الخلق، التدين والالتزام، والشعور بالمسؤولية تجاه اللآخرين والانهمام بما يصيبهم.

كنت قارئا نهما طوال الوقت، بحكم نشأتي في منزل تكسو جدرانه الكتب المتنوعة المذاهب والاتجاهات والمحاور، وبحكم كون والديّ كلاهما من المثقفين المتعلمين القارئين، وأذكر هنا على سبيل الطرفة أنني ولغيرتي من أختي التي كانت قد قرأت "البؤساء" للكاتب فكتور هوغو ولما تتجاوز الحادية عشرة، أنني عمدت إلى قراءتها في ذلك الوقت وكنت أيضا لم أتجاوز العاشرة. إن هذا الإقبال الشديد على القراءة بحكم النشأة والتشجيع، فتح أبوابا كثيرة للتأمل والتفكير والإطلاع، وكان تعدد وتنوع الاتجاهات الفكرية المتوفرة في مكتبة والدي الخاصة كافيا لعدم احتياجي في الأوقات العصيبة للمخاطرة بجلب كتب مثل: "معالم في الطريق" لسيد قطب، أو كتاب "كيف هدمت الخلافة" أحد كتب حزب التحرير المعتمدة، أو سلسلة كتب "لينيننا" الشيوعية، أو روايات تولستوي الرائعة...الخ. كل ذلك كان في متناول يدي وشكل عاملا مهما في استمرار شعلة التطلع لعالم مختلف عما أقاسيه ويقاسيه أهل بلدي من قمع وإرهاب وتنكيل لم يفرق بين المذنب والبريء، بل أحيانا بين المؤمن وغير المؤمن طالما اشتركا في قول "لا" للظلم والإرهاب والإجرام.

وفي الوقت الذي كان فيه النظام البعثي القمعي في سورية يحاول غسل أدمغة الناشئة، وطمس أي معلم من معالم التمرد والمقاومة والحركية المنبنية على أسس دينية إسلامية بشكل خاص، وأي أساس عقائدي مختلف أو مخالف لأهوائه ويهدد استقراره؛ كانت جهود جميع الذين تشبثوا بالبقاء وانحنوا أمام سيل البروباغاندا الجارف الذي أطلقته أجهزة الإرهاب المخابراتية والحزبية البعثية والطائفية الأسروية؛ كانت جهودهم تنصب في تربية العشرات من الآلاف من اليتامى والثكالى والمساكين، ورعايتهم وتنشئتهم ضمن أجواء جماعية وأنشطة مشتركة دون أن يكون لها طابع سياسي معلن أو واضح رغم أنها كانت حبلى بفكرة العمل الجماعي المنظم طوال الوقت.

وهكذا... وضمن السياق المذكور الذي يحتمل الإثراء بالكثير من التفاصيل التي لا مجال لذكرها في هذه العجالة، من الطبيعي ومن المفروغ منه أن تكون فكرة الانتماء إلى عمل تكتلي منظم ينسجم مع الجذور الثقافية، الدينية والحراكية، أمرا واردا من حيث النتيجة. ...وهكذا كان بالنسبة لي.

<>- كيف بدأ انجذابك إلى الحزب من الناحية العملية؟ أصدقاء؟ صدفة؟ وسائل أخرى؟ وفي أي عام كان ذلك؟

كان ذلك ما بين 1988 و 1989، حيث طرح علي صديق لي يكبرني سنا، الانخراط في دراسة ثقافة ومفاهيم وكتب حزب التحرير بشكل رسمي مع أحد الأشخاص المنتمين تنظيميا بشكل فعلي لحزب التحرير، وكنا قبلها نتدارس أحد كتب الحزب (أنا وهذا الصديق) على أساس اجتهاد شخصي منه، حيث كان هو على صلة بالحزب عن طريق علاقة شخصية وغير تنظيمية أيضاً.

<>- كيف بدأ انجذابك إلى الحزب من الناحية العقلية والنفسية؟ أو بالأحرى، كيف ترى هذا الانجذاب بعد مرور هذه السنوات؟ بدافع القناعة؟ الخلفيةالدينية؟ الوضع السياسي؟ أو أية أسباب أخرى؟

كان الاطلاع على فكر الحزب ومفاهيمه عن طريق الصديق الذي ذكرته سابقا هو البوابة الرئيسية للاهتمام، وكان لما يتمتع به هذا الصديق من قوة في الحجة وسعة الإطلاع وجاذبية كارزمية أيضا دافعا إضافياً. أما الناحية العقلية (الفكرية) فإن الأفكار التأسيسية للحزب ما هي إلا استمرار للبناء على المعتقدات والمفاهيم التي يحملها أي فرد ذو نشأة أو خلفية ثقافية إسلامية... الأمر الذي ينطبق على جميع المسلمين ابتداءا، أما من الناحية النفسية فلا شك أن الشعور بالانتماء إلى كيان أكبر وتلبية الحاجة الغرائزية للتواجد ضمن مجموعة متناغمة و متعاونة من الأفراد يؤطرها نسق فكري واحد؛ هو الدافع النفسي وراء الانجذاب إلى فكرة الانخراط في حزب معين، ولا أغفل عامل القطيع في ذلك أيضا.

وأود أن أذكر هنا هو أن عملية التسويق لهذا الحزب كانت ذات أثر كبير في التشجيع على الانضمام له، حيث صوّر لي الوضع على أن الأمر هو مسألة وقت فقط، وما أن يطلق البيان رقم "1" من الإذاعة مابين ليلة و وضحاها، معلنا نجاح الحزب في الانقلاب ومستهلا بداية دولة الخلافة الاسلامية التي طال انتظارها، فإن الحزب على أتم الجهوزية لذلك، بل لديه كادر مستعد لمباشرة مهامه من الوزراء في جميع الأصعدة في اليوم ذاته.

وأظن أن جميع الدوافع التي ذكرتِها كان لها دور بدرجة معينة، وتكاتفت كل هذه الدوافع لتوصل إلى النتيجة النهائية وهي قراري بمباشرة الاحتكاك مع الحزب كـ "دارس" بداية، ومن ثم احتمال الاستمرار كحزبي إن عرض الأمر علي ولاقى قبولا لدي حال حصوله، وهو مالم يتم.

<>- لماذا هذا الحزب دون غيره؟

لأسباب مهمة منها أن احتمال الانخراط في تنظيم غير إسلامي أو غير مبني على أسس إسلامية هو أمر غير وارد بطبيعة الحال والنشأة، وهذا يخرج من الحسبان جميع التوجهات العلمانية، الاشتراكية أو الشيوعية، لأنها ترفض التدين (رغم أنها عقائدية في كثير من الأحيان) من حيث مبادئها ومنطلقاتها؛ مما يبقي في المعادلة الحركات ذات التوجهات الإسلامية الثورية الراديكالية، الاجتماعية التربوية والحركية السياسية؛ وللحقيقة فقد كان لي اطلاع على الاتجاهات الثلاثة الآنفة الذكر وقد أفادتني أدبياتهم وطروحاتهم النظرية بمقدار كبير وربما دفعتني أيضا (رغم أن ما أقوله قد يثير الاستغراب) لاستطلاع فكر حزب التحرير وتلمس مكامن القوة فيه. وأنا أعتقد بناءا على خبرتي السابقة مع حزب التحرير أن البنية الفكرية والسياسية الحزبية استطاعت أن تثبت قوتها وقدرتها، وفي مواضع متنوعة مرونتها وقدرتها العالية على الاجتهاد المنفتح، بل ربما تفوّقها لدى حزب التحرير من الناحية السياسية على بقية الحركات الأخرى، وأستطيع القول أن حزب التحرير من الناحية الهيكلية كحزب سياسي ومن الناحية العملية كصاحب مشروع تغيير سياسي واجتماعي، له كيان واضح ومتبلور يمكن التعامل معه ووضعه تحت المجهر ودراسته على عكس أقوى المنافسين له (من وجهة نظري) جماعة الإخوان المسلمين. فلحزب التحرير جميع مقومات أي حزب سياسي ذو مشروع واضح بأجندة واضحة، وبمشروع واضح مبني على أسس نظرية موجودة في كتب الحزب القديمة والحديثة أو المتبناة، بغض النظر على موافقتي أو عدمها على هذه الأسس النظرية أو تلك، أو هذه المفاهيم التأسيسية أو تلك. وأود ألا يفهم من كلامي التقليل من شأن جهة على حساب جهة أخرى.

Monday, April 30, 2007

!..الوطنيّة كما أراها أنا أيضا

يوم الوطنيين: أوقفوا العنف
إيمي غودمان
ترجمة همّام يوسف

في يوم الوطنيين، صعد المؤرخ هوارد زين منصة قاعة فانويل هول الشهيرة في بوسطن، في المناسبة التي تحتفي بها ماساشوستس إحياءا لذكرى انطلاقة الثورة الأمريكية.

"صوت الطلقة الأولى سمع في أنحاء العالم،" أول طلقة في تللك الثورة، كانت في اليوم التاسع عشر من نيسان لعام 1775، في كونكورد، ماساشوستس.

تكلمَ عن مفهوم الوطنية: "ما الوطنية، وما الذي ليس كذلك؟ من هو الوطني، ومن ليس بوطني؟"

"الوطنية هي أن تعارض. إنها تتعلق بالنقد وبالعصيان المدني،" أبتدأ زين كلامه. وليس بعيدا من فانويل هول، بنى هنري ديفيد ثورو، الذي كان قد ولِدَ في كونكورد، كوخا صغيرا بمحاذاة والدن بوند. ثورو [الذي] كتب "العصيان المدني،" الكتاب الذي أثر بشكل جذري على موهاندس غاندي، ومارتن لوثر كِنغ جونيور. تابع زين، "تم إلقاء القبض عليه لعدم دفعه الضرائب، لأنه كان يحتج على الحرب الأمريكية المكسيكية، بالطريقة ذاتها التي يتبعها المحتجون اليوم على الحرب في العراق." ذهب ثورو إلى السجن. وأثناء وجوده هناك، قيل أن معلمه الكاتب رالف والدو إمرسون قد سأل ثورو، "هنري، مالذي تفعله داخل هذا المكان؟" ثورو أجابه، "بل مالذي تفعله خارجه؟"

كتاب زين "A People’s History of the United States" بمبيعات تفوق المليون ونصف نسخة، هو من أساسيات القراءة لكل من يأمل أن يفهم بحق، الولايات المتحدة في موقعها الحالي كقوة عظمى. فهو يقص حكاية أمريكا، من القاعدة إلى أعلى. زين، إبن الرابعة والثمانين، بابتسامة جدٍّ ودهاء ذاتي الصنعة، يحطم بتأكيد أعلام التاريخ الأمريكي، نازعا ستر الأساطير التي غالبا ما تستخدم للدفاع عن السياسات البائسة.

زين تابع عرفانه للوطنيين، من مثل هلين كيللر. كلنا قد تعلمنا أنها كانت صماء عمياء، وعلى الرغم من ذلك تابعت نحو نجاح كبير. الذي لا تعلمه المناهج المدرسية للأطفال، يقول زين، هو حول مفاهيمها السياسية المتأصلة. "هيلين كيللر كانت وطنية. كانت ثورية، مثقِفة، تحريضية و مجتمعيه. وقد تكلمت في كارنيغي هول ضد الحرب، وآزرت اتحادات العمال في زمنها. وهي رفضت أن تعبر طوقا ضرب حول مسرح كان يعرض عملا عنها."

أثنى زين على وطنية مارك تواين. توين رفع صوته بعد أن هنأ الرئيس ثيودور روزفلت جنرالا شارك في مذبحة في الفيليبين عام 1906. وقد تلا الراحل كورت فونيغوت، أحد محاربي الحرب العالمية الثانية، كلمات تواين هذه في حدث يحتفي بأعمال زين: "من اللازم، يبدو لي، أن يشرفنا و يتوجب علينا أن نساعد بتحرير هؤلاء الناس، وندعهم يتعاملون مع مشاكلهم المحلية يطريقتهم هم؛ وبناءا عليه... أكون مقارعا للامبريالية. أنا أعارض أن يضع النسر مخالبه على أية أراض أخرى."

بينما كان زين يتكلم مساء الإثنين، كان إحصاء القتلى يجري في بلاكسبورغ، فرجينيا، من بعد ثورة إطلاق النيران المروعة في فرجينيا تيك. كان العدد 32 قتيلا، بمن فيهم القاتل نفسه، الذي كان أيضا طالبا في الجامعة. وعدتُ بتفكيري لثلاثة شهور خلت، إلى رعب مماثل. لكن تلك المرة جرى في بغداد، في جامعة المستنصرية. إذ في السادس عشر من يونيو (كانون الثاني)، قتل إنفجارين مزدوجين لسيارة ملغومة وهجوم انتحاري 70 طالباً. كان معظم القتلى من الطالبات اليافعات أثناء مغادرتهن محاضراتهن.

يتفجع بلدنا على الذين ماتوا في فرجينيا تيك، في الوقت ذاته الذي تعودنا فيه على المذابح اليومية في العراق. تخيلوا هجمات بحجم [حادثة فرجينيا] تنال من الشباب العراقي يوما تلو الآخر.

زين شهد الحرب، وشهد آثارها. وهو شهد النزاع المدني العنيف في الولايات المتحدة. وهو يقول أن الجواب يكمن في إبراز تلك الأصوات التي تقول "لا" للعنف:

"إن طمس أو تقليص أصوات المقاومة تلك يعني صنع الفكرة القائلة أن القوة تكمن فقط لدى أولئك المالكين للبنادق. ...أريد إيضاح أن الناس الذين يبدون أنهم لا يملكون أية قوة، من العمال، أو من الملونين أو النساء- ما أن ينتظموا ويحتجّوا و يصنعوا حراكاً- إن لهم صوتا لا يمكن لأية حكومة أن تخمده."

النضال لأجل إيقاف الحرب في العراق، والنضال لإيقاف عنف السلاح في البلاد: لا شيء [آخر] يمكن أن يكون أكثر وطنية.

- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
لقراءة المقال الأصلي بالانكليزية إضغط >>> هنــا
<<<

.

Tuesday, April 24, 2007

إيمانا بالله... إيمانا بالحرية



سبع سنوات عجاف أخرى ستنتهي قريبا... وسبع عجاف أخرى ستبتديء قريبا... والبقرات السمان تستمر في أكل البقرات اللاتي لا تزددن إلا نحولاً... ومازالت السنون تجري وأعمار الرجال والنساء والولدان تتقلص متسارعة نحو نهاياتها البئيسة.


في الغيتو، تذوي أجساد المُعلَمين[بفتح اللام] وأرواحهم وهم ينتظرون الفرج من السماء، أو ينتظرون أخلاء فقدوهم اقتيدوا إلى غرف الغاز، أو أحبّاء اقتيدوا إلى غياهب زنازين الأقبية الرطبة المظلمة، حيث يتوقع لهم أن يذبلوا بالتدريج إلى أن ترتمي بقايا أجسادهم بتباطؤ صامت لتعانق الأرض التي كانوا منها وإليها يعودون، وهم يزفرون بارتياح للنهاية التي طالما فضلوها على حياة السواد والرعب التي أُلقوا فيها؛ و ينتظر المعَلَمون بيأس أيضا أن يحل بهم المصير المشابه تماما. فليس هناك خيارات أخرى سوى انتظار النهاية القميئة التي ستأتي حتما، عفوا أو إكراهاً... ستأتي.


في الغيتو، يتسكع الرجال والنساء في الحارات والأزقة، ويهيمون على وجوههم لا ينظرون أثناء سيرهم لأبعد من مواطئ أقدامهم، ولا يكترثون لسطوع الشمس حين تبزغ من بين السحب السوداء الكثيفة لتملأ الساحات بالبياض، لأن السواد والرطوبة العفنة قد ملأت صدورهم واجتاحت أحلامهم، وعوّدهم اليأس وتكرار المشاهد اليومية الفقيرة بالأمل على ألا ترتسم على وجوههم حتى ابتسامة صفراء واهنة لرؤية الأطفال المتراكضين، الذين لا تسلية لديهم إلا ركل وحول غيتو الذل والتمرغ فيها. وترتطم الأجساد الهائمة ببعضها من حين لآخر بفعل الصدفة لا التقصد، فلا يندّ عن الألسنة الواهنة إلا غمغمة مفعمة باللامبالاة القطبية البرودة، وتستمر الخطى لتتلاشى في العتمة.


في الغيتو، يبيعون ويشترون. يأكلون الخبز الساخن الطازج لكنهم دوما يشعرون بمذاقه باردا مملا واعتياديا. يذهبون لمشاهدة الأفلام التي تتحدث عن بلدان ماوراء الأسوار والحريات التي لا يحدها إلا الأفق، فتصيبهم رعشة حرية يدمنون عليها رغم يقينهم أنها زائلة، وأنها لن تخلف وراءها إلا مرارة الذكرى، إلا أنهم يعودون مرة أخرى... وأخرى... وتزداد المرارة شدة ويزداد القنوط كثافة، ويزداد اللون القاتم القابع في الصدور ثقلا يتوق للانمحاق في الأرض.


في الغيتو، يتسامرون يتحادثون يهرجون ويتلاسنون، أصدقاءُ هم... لكنهم من بعضهم حذرون، تشوب نظراتهم دوما مسحة من الريبة والخوف المستكين، فلا يعلم أحدَهم من سيشتري بأحدِهم دراجةً هوائية أو وجبة عشاء باردة. لهم أن يحركوا شفاههم و يصدروا بعض الأصوات من حناجرهم، لكنها لضعفها لا تتجاوز مسامعهم ويسود الصمت. ويجتمعون دون أن يكونوا معا عندما يتحدثون، ثم يصمتون... فتلفهم وَحدَة الصمت فيلوذون بها، ويشعرون بحبهم للصامتين الآخرين فيتماسكون بصمتهم وبه يتمسكون.


في الغيتو، يتبادلون الحب، وأجمل تبادله بين العيون، فتقلقهم دوما نظراتهم الساهمة التي يصطرع فيها البياض مع السواد و يخالطها دوما أفق يأس دائم الحضور... وتعلن أجسادهم سيطرتها إلى حين... وتعترك وتصطرع، وكل منهم يحاول أن يختبئ في أحشاء الآخر ليختفي في ثناياه، في بحث حيواني عن الأمن والأحلام الهادئة الزرقاء، وتتعلق أنفاسهم بلحيظة أمل، ممزوجة بل مترعة بإدراك خفي عنيد... أن لا أمل... فيبكون.





حبيبتي بلادي، حبيبتي كل مدينة فيك، وحبيبتي أسوارك التي كانت ملاذ أهلها وأمنهم. ودارت أيام الزمان، وتسلق القرود على الحيطان، وتربع الغول على العرش فأصبح ملك الزمان، فتحولت أسوار الأمان والمنعة إلى أسوار غيتو كبير، ترتع داخله الأجساد الهائمة على وجوهها إلى حين... والغول يضحك وينتفخ، ويمدّه الشعب الأسير في كل وقت بما يحتاجه من نسغ الحياة والرحيق... ومن آن لآن... بأعوان صغار من الغيلان.


لكن آن الأوان حبيبتي دمشق آن الأوان.


أيا بلاد الشام حطّمي أسوارك التي بنيتها بيداك لأن الوقت حان. وقولي كفى للغيلان، كفى للطغيان، كفى لسماسرة البشر والأوطان. ومزقي أسمالك و شرّعي ذراعيك و وجهك وصدرك للشمس ولا تستسلمي للنوم بعد الآن. لا نوم بعد الآن.


يريد ضعاف النفوس صغار الغيلان أن تنامي مرة أخرى لسبع سنين. وتلقي بآمالك أحلامك رجالك نسائك شبابك و أطفالك، وليمة سائغة لبضعة الكبار من الغيلان. فأعلنيها من مآذن ونواقيس العزة في الشام التي أحبت الله وحده وعبدته وحده، فأعتقتها حريتها في عبوديتها له وحده، من عبوديتها لكل الحريات الممنوحة لها من الغيلان على طول التاريخ من البيزنطيين والبعثيين والرومان.


لا نوم بعد الآن.


هل يستوي خطاب القسم الروماني بكلمة من القرآن!


* لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ *


* أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَةَ اللّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ * جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ * وَجَعَلُواْ لِلّهِ أَندَادًا لِّيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُواْ فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ *


لا نوم بعد الآن


ولا طاعة حتى للوالدين إن أمرا بما يخالف العبودية للحرية، فما بالكم بمن يطلب الطاعة في استعباد الناس والأوطان.


* وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ * وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ *


وما بالكم بالمجرمين منتهكي حقوق الإنسان، الذين ينقمون من المجاهرين بالحق، بل من المطالبين بالإصلاح الداعين إلى تطهير مجتمعاتهم من الرشوة والفساد والقذارة والمحسوبيات والاحتلال. فبطشوا بهم وتهمتهم هي: * فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَن قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ * فالفاسد لا يربكه ويقلقه أكثر من رؤية الذين لا يفسدون، ويستخدم أحاييله وإغواءاته ليزيد من الفاسدين ويقلص من المتطهرين.


لا نوم بعد الآن


إن ما جرى من المهازل الانتخابية طوال حكم البعث ما قبل وبعد حافظ الأسد، والمهزلة التي حدثت مؤخراً ما بعد بشار الأسد، والمهزلة التي من المقرر لها أن تحدث قريبا والتي يقال لها "استفتاء" ومن المفروغ منها أنها ستكرس حكم الغيلان سواء رضي الناس أم لم يرضوا. لهي الدافع الأكبر والوحيد على أن تثبت بلاد الشام، بلاد جميع أبنائها وطوائفها وإثنياتها أنها لا تطيع ولن تطيع.


إن لم تستطيعوا التصريح بـ "لا"

فلا تعطوهم قبولكم بهم وبجرائمهم بكلمة "نعم"


قاطعوهم... يخزهم الله بصمتكم


لا نوم بعد الآن


.

Saturday, March 24, 2007

إبتهال

إلهي لا تُعَذَّبْنِي فإِنِّي ...................... مُقِرٌّ بالَّذي قد كان مِنِّي

فما لي حيلةٌ إلاّ رجائي ............ لِعَفْوِك إنْ عَفَوْتَ وحُسْنُ ظَنِّي

وكَم مِنْ زَلَةٍ لي في الخَطَايا ............. وأنتَ عليَّ ذو فَضْلٍ ومَنِّ

إذَا فَكَّرتُ في نَدَمي عليها ......... عَضِضْتُ أَنامِلي وقَرَعْتُ سِنِّي

أجنُّ بِزَهْرةِ الدُّنْيا جُنونا ............... وأَقْطَعُ طولَ عُمْري بالتَّمنِّي

ولَوْ أَنِّي صَدَقْتُ الزُّهْدَ عنها .............. قلبتُ لأهلِها ظَهْرَ المِجَنِّ

يَظُنّ الناسُ بي خيراً وإِنِّي ............ لَشَرُّ الخَلْقِ إنْ لم تَعْفُ عنِّي
.
.
محمد بن أبي العتاهية، قال: آخر شعر قاله أبي في مرضه الذي مات فيه

Thursday, March 22, 2007

نزار ودمشق... عنده يصمت القلم

بمناسبة القرارات الأخيرة التي تتخذ في دمشق... حول دمشق... دون دمشق

والتخطيط العشوائي الذي يستهدف بدأ النيل من المدينة العريقة، واستهلال القضم المنهجي للنسيج العمراني لدمشق القديمة، لتنتفخ جيوب تجار الأوطان أكثر وأكثر! تم إنشاء موقع للتصويت بشأن قرارات هدم عدة أسواق في دمشق القديمة، بالإضافة إلى موقع للتوقيع على عريضة موجهة لمدير مركز التراث العالمي التابع لليونسكو لمتابعة الموضوع.

.


.

.
أما بعد... إليكم شاعر دمشق نزار قباني يتحدث عنها:

والذين سكنوا دمشق، وتغلغلوا في حاراتها و زواريبها الضيقة، يعرفون كيف تفتح لهم الجنة ذراعيها من حيث لا ينتظرون...

بوّابة صغيرة من الخشب تنفتح. ويبدأ الإسراء على الأخضر، والأحمر، والليلكيّ، و تبدأ سيمفونية الضوء والظّل والرخام.

شجرة النارنج تحتضن ثمارها، والدالية حامل، والياسمينة ولدت ألف قمر أبيض وعلقتهم على قضبان النوافذ.. وأسراب السنونو لا تصطاف إلا عندنا..

أسود الرخام حول البركة الوسطى تملأ فمها بالماء.. و تنفخه.. و تستمر اللعبة المائية ليلاً و نهاراً..لا النوافير تتعب.. ولا ماء دمشق ينتهي..

الورد البلديّ سجَّاد أحمر ممدود تحت أقدامك.. واللَّيلكَة تمشط شعرها البنفسجي، والشِمشير، والخبَّيزة، والشاب الظريف، والمنثور، والريحان، والأضاليا.. وألوف النباتات الدمشقية التي أتذكَّر ألوانها ولا أتذكر أسمائها.. لا تزال تتسلق على أصابعي كلَّما أردت أن أكتب..

القطط الشامِّية النظيفة الممتلئة صحةً ونضارة تصعد إلى مملكة الشمس لتمارس غزلها و رومانتيكيتها بحريّة مطلقة، وحين تعود بعد هجر الحبيب ومعها قطيع من صغارها ستجد من يستقبلها ويُطعمها و يكفكف دموعها..

الأدراج الرخاميّة تصعد.. وتصعد..على كيفها.. والحمائم تهاجر وترجع على كيفها.. لا أحد يسألها ماذا تفعل؟ والسمكُ الأحمر يسبح على كيفه.. ولا أحد يسأله إلى أين؟

و عشرون صحيفة فُلّ في صحن الدار هي كل ثروة أمي.

كلُّ زّر فّلٍ عندها يساوي صبيّاً من أولادها.. لذاك كلما غافلناها وسرقنا ولداً من أولادها.. بكتْ.. وشكتنا إلى الله..

***

ضمن نطاق هذا الحزام الأخضر.. ولدتُ، وحبوتُ ، ونطقتُ كلماتي الأولى.

كان اصطدامي بالجمال قَدراً يومياً. كنتُ إذا تعثّرتُ أتعثّر بجناح حمامة.. وإذا سقطتُ أسقط على حضن وردة..

هذا البيت الدمشقي الجميل استحوذ على كل مشاعري وأفقدني شهِّية الخروج إلى الزقاق.. كما يفعل الصبيان في كل الحارات.. ومن هنا نشأ عندي هذا الحسُّ (البيتوتي) الذي رافقني في كلّ مراحل حياتي.

إنني أشعر حتى اليوم بنوع من الاكتفاء الذاتي، يجعل التسَّكع على أرصفة الشوارع، واصطياد الذباب في المقاهي المكتظة بالرجال، عملاً ترفضه طبيعتي.

وإذا كان نصف أدباء العالم قد تخرج من أكاديمية المقاهي، فإنني لم أكن من متخرّجيها.

لقد كنت أؤمن أن العمل الأدبي عمل من أعمال العبادة، له طقوسه ومراسمه وطهارته، وكان من الصعب عليَّ أن أفهم كيف يمكن أن يخرج الأدب الجادّ من نرابيش النراجيل، وطقطقة أحجار النرد..

***

طفولتي قضيتها تحت (مظلّة الفيْ والرطوبة) التي هي بيتنا العتيق في (مئذنة الشحم) كان هذا البيت هو نهاية حدود العالم عندي، كان الصديق، والواحة، والمشتى، والمصيف..

أستطيع الآن، أن أغمض عيني وأعد مسامير أبوابه، وأستعيد آيات القرآن المحفورة على خشب قاعاته.

أستطيع الآن أن أعدّ بلاطاته واحدةً.. واحدة.. وأسماك بركته واحدةً.. واحدة.. وسلالمه الرخاميّة درجةً.. درجة..

أستطيع أن أغمض عيني، وأستعيد، بعد ثلاثيين سنة مجلسَ أبي في صحن الدار، وأمامه فنجان قهوته، ومنقله، وعلبة تبغه، وجريدته.. وعلى صفحات الجريدة تساقط كلّ خمس دقائق زهرة ياسمين بيضاء.. كأنها رسالة حبّ قادمة من السماء..

على السجادة الفارسيّة الممدودة على بلاط الدار ذاكرتُ دروسي، وكتبتُ فروضي، وحفظتُ قصائد عمر بن كلثوم، وزهير، والنابغة الذبياني، وطرفة بن العبد..

هذا البيت-المظّلة ترك بصماته واضحة على شعري. تماماً كما تركت غرناطة وقرطبة وإشبيليا بصماتها على الشعر الأندلسي.



من مفكرة عاشق دمشقي

.
فرشتُ فوقَ ثراكِ الطاهـرِ الهدبـا
فيا دمشـقُ... لماذا نبـدأ العتبـا؟
***
حبيبتي أنـتِ... فاستلقي كأغنيـةٍ
على ذراعي، ولا تستوضحي السببا
***
أنتِ النساءُ جميعاً.. ما من امـرأةٍ
أحببتُ بعدك..ِ إلا خلتُها كـذبا
***
يا شامُ، إنَّ جراحي لا ضفافَ لها
فمسّحي عن جبيني الحزنَ والتعبا
***
وأرجعيني إلى أسـوارِ مدرسـتي
وأرجعيني الحبرَ والطبشورَ والكتبا
***
تلكَ الزواريبُ كم كنزٍ طمرتُ بها
وكم تركتُ عليها ذكرياتِ صـبا
***
وكم رسمتُ على جدرانِها صـوراً
وكم كسرتُ على أدراجـها لُعبا
***
أتيتُ من رحمِ الأحزانِ... يا وطني
أقبّلُ الأرضَ والأبـوابَ والشُّـهبا
***
حبّي هـنا.. وحبيباتي ولـدنَ هـنا
فمـن يعيـدُ ليَ العمرَ الذي ذهبا؟
***
أنا قبيلـةُ عشّـاقٍ بكامـلـها
ومن دموعي سقيتُ البحرَ والسّحُبا
***
فكـلُّ صفصافـةٍ حّولتُها امـرأةً
و كـلُّ مئذنـةٍ رصّـعتُها ذهـبا
***
هـذي البساتـينُ كانت بينَ أمتعتي
لما ارتحلـتُ عـن الفيحـاءِ مغتربا
***
فلا قميصَ من القمصـانِ ألبسـهُ
إلا وجـدتُ على خيطانـهِ عنبا
***
كـم مبحـرٍ.. وهمومُ البرِّ تسكنهُ
وهاربٍ من قضاءِ الحبِّ ما هـربا
***

Friday, March 09, 2007

!زاويتي




هذه زاويتي...
شرفتي التي أطل منها على العالم...
بدون تعليق... :)
.
.

Wednesday, March 07, 2007

!! الولايات المتحدة تموّل القاعدة



الولايات المتحدة تموّل بشكل غير مباشر مجوعات سنية على صلات بالقاعدة، في عمل لمواجهة إيران.

من موقع الديموقراطية الآن "ديموكراسي ناو"
ترجمة مقتطفات: همّام يوسف

المحقق الصحفي سيمور هيرش ينضم إلينا للحديث عن مقاله المثير الذي نشر في مجلة ذا نيو يوركر. يذكر هيرش أن قرار جون نيغروبونتي بالاستقالة من منصبه كـ مدير الاستخبارات الوطنية، يعود جزئيا إلى العميات السرية التي تقوم بها إدارة بوش، بما فيها التمويل غير المباشر لمجموعات سنية راديكالية –بعضها ذو صلات مع القاعدة- لمواجهة مجموعات مدعومة من إيران. ويورد هيرش أيضا أن البنتاغون قد أنشأ مجموعة تخطيط خاصة لرسم خطة قصف بالقنابل في هجوم يستهدف إيران، وأن فرقا من الجيش الأمريكي والعمليات الخاصة قد عبرت الحدود إلى داخل إيران لتجنيد عملاء إيرانيين.

إيمي غودمان: سيمور هيرش صحفي حائز على جائزة البوليتزر يعمل في مجلة ذا نيو يوركر، ينضم إلينا الآن من واشنطن، دي. سي. أهلا بك في "ديموكراسي ناو" سيـ هيرش.

هيرش: صباح الخير.

إيمي: من الجميل اللقاء بك بعد عودتك من مصر.

هيرش: نعم، هذا صحيح.

إيمي: تكلم عما وجدته. إبدأ بما يخص جون نيغربونتي.

هيرش: حسنا، أنا لم أتحدث إليه. هو لم ينكر القصة. هو ببساطة رفض التعليق عندما أرسلت الـ نيو يوركر مجموعة من الأسئلة إلى مكتبه في مبنى إدارة الدولة. بشكل أساسي، كان هناك ببساطة سببين لرغبته بترك عمله، العمل الذي –الذي سمعته للتو- أخذه مكونيل من بعده. الأول هو أنه لم يتوافق بشكل جيد مع "تشيني"، لأنه كان يعد حرفي التمسك بالنظام، أو "قوانيني" تعبير آخر استخدم لوصفه، بما يتعلق بمنح الموافقة على بعض العمليات السرية والخفية للبنتاغون. كما يعلم العديد، فالبنتاغون كان يجري عمليات دون أي إشراف من الكونغرس لسنوات الآن –وقد تمت الكتابة حول هذا- على ذريعة أن هذا كله جزء من الحرب، تهيئة ساحة المعركة، ما له علاقة بالشؤون العسكرية، وليس الاستخباراتية، ولذلك، بما أنها [العمليلت] لم تكن استخباراتية، لم يكن هناك من سبب للتقيد بقانون الإخبار عن العمليات الاستخباراتية السرية. كانت ببساطة أنشطة عسكرية يمكن للرئيس المصادقة عليها دون الكونغرس. هو [نيغروبونتي] لم يوافق على هذا. لم يوافق. أعتقد أنه بالإمكان القول أن نيغروبونتي وجد بعض العمليات خطرة و ربما أيضا غير قانونية . لكن التي أزعجته بشكل كبير هي العمليات السرية التي نقوم بها في أماكن متعدده في الشرق الأوسط، التي تستهدف الإيرانيين والشيعة بتمويل يستخدمه "بندر" بشكل جزئي.
أيضا، إيمي، علي أن أذكر أمرا واحدا لأصحح ما قلتِه في الافتتاحية، فقط لتدقيقه. فالأمر ليس كما لو أننا سنجد أي دليل على أن الأموال الأمريكية ذهبت إلى مجموعات جهادية إرهابية في لبنان، الأمر الذي أزعمه أنا. ليس هناك أية صلة مباشرة. ما هناك هو تدفق لأموال أمريكية دون أن تمر عبر موافقة الكونغرس، تصب في حكومة لبنان، التي هي سنيّة، حكومة رئيس الوزراء السنيورة. وهم، بدورهم، يمررونها لعدة –على الأقل ثلاث مجموعات جهادية سنية.

إيمي: الآن، أشرح لنا –بداية، أنت ذكرت الأمير بندر، هذا، السفير السابق إلى الولايات المتحدة.

هيرش: إثنان وعشرون عاما هنا، نعم.

إيمي: المعروف بـ "بندر بوش"

هيرش: ليس من طرفي.

إيمي: إذا هو السفير الذي جلس إلى الرئيس بوش بعد عدة أيام من هجمات الحادي عشر من أيلول، بينما كانا يدخنان السيجار، في البيت الأبيض.

هيرش: حسنا، هو مقرب جدا لـ "تشيني". كان سفيرا هنا لاثنتين وعشرين سنة. غادر منذ بضعة سنوات، استبدل برجل يدعى الأمير "تركي"، عضو بارز في العائلة المالكة، وكان رئيس الاستخبارات في الحكومة السعودية، وأيضا كان سفيرا في لندن. جاء "تركي" ومن ثم استقال بعد أقل من سنتين في منصبه، لأن "بندر" حظي ببوابة خلفية او علاقة خصوصية مع العديد من الأشخاص في الإدارة [الأمريكية]. هو [بندر] كان يلتقي بـ "تشيني" دون أن يعلم "تركي". تعرفين، كان يحضّر للقاءات. وهكذا "بندر" حظي بعلاقة شخص لشخص (أفترض) مع الرئيس –أستطيع القول مبدئيا مع تشيني- وأيضا مقرب جدا من أعضاء محددون داخل البيت الأبيض، بمن فيهم "إليوت آبرامز"، الذي كان –الذي هو الآن- أظن أنه المستشار الأول حول الشرق الأوسط لمجلس الأمن القومي، و نائب مستشار الرئيس للأمن القومي.

إيمي: إذا، ماهو بدقة موقع الأمير بندر-هو ليس السفير [السعودي] بعد الآن- بعد عودته للمملكة السعودية؟

هيرش: حسنا، تعلمين، "بدقة،" لا أعرف. نحن نتكلم عن عالم شديد الضبابية، حيث لا أحد يود الحديث عنه بشكل رسمي، وحتى غير رسمي، ماعدا بعض الأشخاص. بكلمات أخرى، أنا لاأستطيع الذهاب إلى حكومة المملكة السعودية وأقول، "أعطوني شرحا لما يجري." هذا فقط –تعلمين، إنسي ذلك. نحن نحاول.
بندر غادر من هنا وظن الجميع أن سيرته العملية قد انتهت، بمن فيهم –هو نفسه. لكن انتهى به المطاف بتسميته مستشارا للأمن القومي [السعودي]. وللمفاجأة، في الشهور الثلاثة أو الأربعة الأخيرة برز كلاعب أساسي لصالح الولايات المتحدة. وقد التقى بالإسرائيليين. الذي حدث ببساطة أن الرئيس قرر في وقت ما من الأشهر الثلاثة أو الأربعة الماضية، وربما أبكر من ذلك، لكن فعّل ذلك في الفترة المذكورة، قرر أن يعمل مع البريطانيين، المملكة المتحدة، والإسرائيليين، ويأتلفوا –مجموع هذه الدول الثلاث يأتلفوا مع ما نسميهم الحكومات السنية المعتدلة- أي، مصر، الأردن والمملكة السعودية –جميعهم سنيون بشكل طاغي؛ هذه الدول الستّ ستعمل سوية ضد الشيعة وضد إيران بشكل متكاتف.
وفي لبنان، على سبيل المثال، يوجد مواجهة متكافئة –صار له شهور الآن- بالتالي حقيقة مواجهة سياسية بين حكومة السنيورة، "السنيّة،" التي تناصرنا وندعمها، وبين حلف يرأسه حزب الله، الكتلة الشيعية التي دائما ما وصفناها بالمجموعة الإرهابية، والتي كانت مجموعة إرهابية لكن الآن وللسنوات الستّ أو السبع الماضية تنشط محليا وسياسيا في الداخل اللبناني و بإمكانات كبيرة.

نحن أيضا نعمل ضد نظام بشار الأسد في سوريا. هو ليس سنيا، هو حقيقية من الطائفة العلوية، التي هي أيضا أقلية وفي المحيط السني –تعلمين، في العالم السني، بالنسبة للجهاديين السنيين، إن لم تكن سنياً ولم تؤيد وجهات نظرهم الخاصة، ومنظورهم السياسي للقرآن، أنت كافر، وبالتالي يمكن التخلص منك. وكـ "علوي،" بشار الأسد يخضع للمنطق ذاته. وأيضا بالطبع الجميع قد استهدفوا إيران. وهكذا حصل –في مقالي سميته "إعادة توجيه." هذا ما يطلقون عليه في البيت الأبيض. قد طرأ تحول هائل لمحط الانتباه من العراق إلى إيران، وباتجاه حزب الله في لبنان وتجاه فعل شيء بخصوص "الأسد."

إيمي: إذاً من الذي يتلقى الأموال في لبنان الآن تحديداً؟

هيرش: حسناً، هي أموال تتدفق إلى الداخل، أموال خفيّة. جزء كبير منها جاء –هذا كله ابتدأ في لبنان بعد اغتيال رفيق الحريري، الذي حدث منذ عامين في شباط سنة 2005. على الفور، نحن، الولايات المتحدة وحلفاؤها، ألقينا باللوم على سوريا. لا يوجد دليل دامغ أن سوريا فعلتها. رغم أنها تبدو وجهة النظر الغالبة، لكن ليس هناك دليل. حدث الكثير من الإغتيالات السياسية في لبنان. هناك ما يقارب العشرون اغتيالا وقع في السنوات العشر الأخيرة. هذا فقط أحد الأوجه. وما حدث هو أن الحكومة السنيّة هناك أصبحت حليفا كبيراً لنا، وقمنا بعمل كل مايمكن فعله لدعمها. وقد أغرقنا –إن كان هناك من أحد- أظن أطلقنا عليها ثورة الأرز! وكانت بشكل ما –الحكومة السنيّة بمواجهة نصرالله، الذي نراه على أنه تهديد إرهابي أساسي.

وأظن، عليّ أن أخبرك، أستطرد لبرهة لأقول أنني لا أعلم شيئا عن "بوش." لكن أعلم شيئا ما عما يفكر به "تشيني،" وهذا من منطلق معرفة أشخاص يتمتعون بقنوات مباشرة. وتشيني يؤمن بأن –قناعة تشيني الراسخة أن إيران سوف تتوصل لامتلاك قنبلة، بغض النظر عن المعلومات الاستخبارية. كما تعلمين، ليس هناك استخبارات كافية تدعم حقيقة امتلاكهم لقنبلة. إيران سوف تمتلك قنبلة، وحين تحصل عليها، عميلها، أو "قوات الصاعقة" التابعين لها [تعبير مأخوذ من الفترة النازية في ألمانيا، وكان حرفياً: القمصان البنيّة] –هذه بالمناسبة العبارة التي استخدموها على الأقل مرة أو مرتين في البيت الأبيض- قمصان [إيران] البنية سيكونوا حزب الله. وهم لديهم الإمكانيات في أمريكا. لديهم تسهيلات في الخفاء، خلايا هنا، وعندما تمتلك إيران القنبلة، سيعطونها لحزب الله لتوزيعها، و واشنطن ونيويورك غير حصينتين.
بكلمات أخرى، "تشيني" يرى ما يجري الآن على أنه تهديد مباشر للولايات المتحدة الأمريكية. هو لا يراه على أنه ببساطة أمر يجري في أوربا الغربية أو الشرق الأوسط. هو يحمي أمريكا باتخاذ موقف إستباقي، مبادر "الآن."

وهكذا، في لبنان، ما أن سقط الحريري وخلقت أزمة هناك، سارعنا بالتحرك والوقوف لجانب أية مجموعة تناكف نصر الله وحزب الله. وبناء عليه، أهرقنا الكثير من الأموال، أموال محرمة. لم تكن مرخصة من الكونغرس. أموال كانت تهطل عليهم. تم زرع أعضاء متقاعدون سابقون في السي آي إيه هناك. أشخاص متقاعدون ذهبوا للبنان، من وكالات أخرى. التمويل جاء، من حيث لا يعلم الكثيرون بالتأكيد من أين. يتواجد الكثير من المنابع للأموال القذرة، الوفير من الأموال. وبدون شك، بعضها جاء، يقال لي، من العراق. ما أقصده، كما تعلمين، في الأسبوع الماضي كانت هناك جلسات للتمحيص أظهرت أن هناك 9 مليارات من اموال النفط العراقي اختفت بشكل غامض ولم يتم المحاسبة بشأنها. بعض هذه الأموال تم تبييضه هنا وهناك. وأيضا هناك أموال كثيرة تم العثور عليها بعد سقوط صدام. وجدنا عدة مخابيء احتوت على مبالغ طائلة، تعرفين، مئات بل مليارات الدولارات في بعض الحالات، من العملة. وأيضا وجدنا أموالاً في وزارات عديدة.

ليس هناك حقيقة أية محاسبة، والكثير منها قد يكون آل به المطاف إلى منابع الأموال القذرة. لكن مازال غير واضحا من أين أتت الأموال، وليس من المطلوب أن يكون مصدرها واضحا. ما تفعلينه هو أن تغسلي الأموال داخليا. تمررينها لأشخاص معينيين. وتقوم الحكومة اللبنانية بتعهيد أفراد أمنها الداخليين.

ما نقوم به الآن هو، في السنوات البضع الأخيرة، أو أحدث من ذلك، في فترة السنة الماضية، ثلاثة مجموعات جهاديّة، سنيّة سلفيّة أو وهّابية –هؤلاء هم المذاهب القادمة من العربية السعودية، و لا تنسي، خمسة عشر من أصل تسعة عشر من الذين ارتطموا بالبرجين في نيويورك، كانوا سعوديون من بيئة تشدد ديني –كانوا جهاديّين من- إما من السلفيّين أو الوهّابيّين. ونعلم أن المجموعات الآن –هناك ثلاث مجموعات، متشابهة السمات –وفقا لتقارير قرأتُها، بعض الأعضاء في هذه المجموعات تم تدريبهم في أفغانستان، وعلى صلات قريبة من القاعدة، لكن ليس الجميع. هذه شبكة فضفاضة. ما لدينا في أرجاء العالم هو هذه المجموعات الإرهابية التي تعمل بشكل مستقل عن بن لادن، على الرغم أنه ليس واضحا حقيقة عدم قدرتهم على التواصل بطرق ما. من خلال الشبكة أو ماذا، نحن لسنا متأكدين. لكن هذه المجموعات الثلاث، قبل عامين، كنا لنقوم بكل ما نستطيعه في الولايات المتحدة لإلقاء القبض عليهم وإرسالهم إلى "غيتمو،" غوانتانامو، أو أي مكان آخر. بدلا عن ذلك، نحن نلقي بالأموال في البلد [لبنان]، إلى جوف الحكومة، وإلى جوف جهاز الأمن [اللبناني] الداخلي، ومن ثم تقوم هذه الآليات والميكانيزمات الأمنية الداخلية بتعهد هذه المجموعات. وهم، ما أن عبرت إحدى المجموعات الحدود السورية إلى داخل لبنان، تم تزويدهم بالمواد، والمساكن، الأسلحة والذخيرة. هناك ثلاث مجموعات عاملة على هذه الشاكلة.

ولم هم هناك؟ لأنه في حال سارت الأمور بشكل سيئ في لبنان ونصل إلى حرب أهلية مابين حزب الله وشركاؤه في التحالف وبين الحكومة السنيّة، فهؤلاء هم عصبة من الأشداء الذين يستطيعون التعامل، على ما نعتقد، مع الأشداء من داخل حزب الله. هي نوع من ألعاب المضاهاة. وهكذا فنحن بالنتيجة، نشارك في السرير –تعرفين، عدو عدوكِ هو صديقك.

[الأمير] بندر، كما كنت كتبت في المقال، بندر أكد لنا أن المجموعات السلفية في لبنان مأمونة. لا تقلقوا من ناحيتهم. أظن أحدهم قال –وصف الأمر لي، هو قال [بندر] في لحظة معينة، "أنا وهّابي." هو أحد أتباع هذا المذهب الديني المتقشف، هو نفسه، في المملكة السعودية. "أنا أستطيع أن أذهب للصلاة ومن ثم أعود من المسجد لأجلس، للقاء للعمل واحتساء المشروب." وهو قال أن هذه المجموعات في لبنان، هو أخبرنا، يستهدفون، ليس أمريكا بالضرورة، بل يستهدفون إيران، حزب الله، الشيعة في أماكن أخرى، ويستهدفون سوريا. هذه هي أهدافهم الرئيسية، وأنهم "مأمونون." أنا أدرج أقوال آخرين، بمن فيهم شخصيات بارزة من العربية السعودية، يقولون أن هذا فعلا جنون، لأن هؤلاء الناس خارجون عن السيطرة. إذن هذا هو موقعنا في الوضع القائم. إنه معقد وشديد السخرية بمنظور ما. وما لديك في المحصلة هو شكل من إعادة التوجه الجذري. لي صديق عسكري وصفه بالسقوط إلى الأمام، متحدثا عن الإخفاق في العراق كدافع لهذه السياسة.

للنص بقية بالانكليزية...