Tuesday, July 24, 2007

تجربتي المنقضية مع حزب التحرير وتداعياتها - الجزء الأخير

الدولاب تسمية معروفة لكل السوريين بفضل الثقافة الإرهابية الرسمية، وكانت له رهبة وغموض أسود خاص به، ورغم معرفتي ويقيني التاميين أن المحقق يعرف تماما من يسأل عنهما و رغم يقيني أنني بإمكاني تجنب "الدولاب" فقط بإقراري بمعرفتهما قبل أن أغادر الغرفة! إلا أنني كنت أريد لقاء هذا الغول الغامض ومجابهته وجها لوجه، وهكذا لذت بالصمت منتظرا هذا الدولاب البعبع.



<>- حدثنا عن فترة اعتقالك، مع المجموعة التي اعتقلت معها، عددالمعتقلين، ظروف التحقيق، مكانه ومكان السجن، ظروف السجن، مدى احتكاكك بسجناء من خلفيات أخرى، علاقتك بأعضاء الحزب المعتقلين أثناء السجن، المحاكمة إن وجدت؟

اعتقلت بتاريخ 29/12/1999 حوالي العاشرة ليلا فيما يشبه الاختطاف الذي نعرفه من القصص والأفلام. يومها كانت مكالمة غريبة من والدتي قد أثارت لدي توجسا عميقا، فقد أخبرتني أن هناك من يدّعون أنهم أصدقائي من أيام خدمة العلم (أي منذ العام 1993 !!) يريدون رؤيتي وأنهم يحملون رسالة لي، وعندما سألت ما أسماؤهم وما أعمارهم تعجبت أكثر مما وصفت، ولما قلت لها أن تستلم الرسالة بدلا عني أخبروها أنني يجب أن أستلمها بيدي، هنا طلبت منها أن تحصل على رقم هاتف منهم علني أتصل بهم فيما بعد... وبعد قليل تلقيت اتصالا من أحدهم يقول لي أنه أبو ثائر (؟؟) وأنه يجب أن يسلمني الرسالة... وألح في معرفة عنوان منزلي بدقة إلا أنني استطعت إقناعه بأنني سألتقيه في مكان يسهل على كلينا الوصول إليه.

كل ماكان يجري كان يؤكد لي أن هناك أمرا مريبا وأن احتمال وشاية أو تقرير إلى الأجهزة القمعية ( ولا أقول الأمنية ) قد يكون وراء مسرحية بوليسية كهذه، وقد تأكدت من ذلك عندما استطعت الوصول إلى مكان اللقاء بحيث أرى من ينتظرني ولا يراني، وأبصرت الباص الصغير المحمل بالعناصر المسلحة وكذلك سيارة الضابط التي كان محركها يدور رغم أنوارها المطفأة، في هذه الأثناء وصل أخي إلى مكان يستطيع منه مراقبة مايحدث دون أن يتدخل كما طلبت منه عبر الهاتف قبل أن أغادر المنزل لأنني لم أكن مطمئنا لما قد يحدث في خضم كل هذا الغموض. ترددت قليلا وتباطأت خطواتي وكان بإمكاني التراجع والتواري في الظلام إلا أن الذي كان يحيرني هو التساؤل عما قد يكون السبب في هذا، ولإيماني الكبير أنه لا مبرر للقلق ويقيني أنني كنت أقول في العلن ما أضمره في نفسي قررت المتابعة ومواجهة الأمر كائنا ماكان بدلا من الهرب الذي يثبت علي أية تهمة وإن كانت كاذبة.

وما إن وصلت إلى الرجل الذي ينتظرني (علمت فيما بعد أنه عقيد في المخابرات الجوية اسمه الأول مطانيوس) ومددت يدي مصافحا ومعرفا بنفسي حتى تشبث بذراعي بشدة وأحاط بي العساكر تحسبا أن ألوذ بالفرار (؟!)

أخبرهم الضابط ألا يزعجونني -لأنني على مايبدو محترم، على حد تعبيره (!!)- وفعلا لم أتعرض لأي إزعاج!!، إلا أن هذا لم يغير من إجراءات تكبيل يدي خلف ظهري و وضع عصبة على عيني بالإضافة إلى إلزامي بخفض رأسي ليلامس ظهر الكرسي الأمامي.

وبعد أن أكد الضابط لأخي -الذي كانوا قد أمسكوا به- أنني مطلوب للسؤال فقط ولن يطول الوقت حتى أعود، انطلق الباص الصغير ( ندعوه سرفيس في سورية) في ظلمات تلك الليلة يقودني في رحلته نحو المجهول وقد تجاوزت الساعة الحادية عشرة ليلا و دماغي يكاد يتمزق لتسارع الأفكار وتزاحمها في محاولة اكتشاف ماذا؟ ومن؟ ولماذ؟ا وإلى أين؟

أما كيف جرت الأمور بعدها فهي مشابهة كثيرا لما كتب في هذا الشأن من قبل معتقلين سياسيين سابقين، شتائم وإهانات صفعات وخلافه، وهذا حصل بعد أن اجتزت مرحلة الديوان حيث سجلت كافة المعلومات عني وتم التقاط صور لي كما الأفلام الأمريكية وتم تجريدي من كل شيء ما عدا ملابسي وحذائي الذي نزعت سيوره تلبية لطلبهم. وبعد أن تم تفتيشي مرة ثانية، وضعت في زنزانة "إفرادية" تبلغ أبعادها (180X220سم) مع أربعة أشخاص آخرين كنت أتقاسم معهم طعام الإفطار والسحور (كنا في الأيام الأخيرة من رمضان) وعلمت منهم فيما بعد أنهم كانوا عناصر أمن تابعين للمخابرات الجوية موقوفين لمخالفات مسلكية بسيطة، هذا في اليوم الأول من اعتقالي... إذ بقيت أنتظر يومين أو أكثر قبل بداية التحقيق معي، وطيلة اليومين أو الثلاثة كنت مازلت لا أعلم سبب اعتقالي، قد أخبروني أثناءها أنني موجود في فرع التحقيق التابع للمخابرات الجوية. وفيما عدا الاستقبال الذي قام به السجانون عندما دخلت مبنى السجن (الذي كان فوق الأرض) فإنني لم أتعرض لأية إساءات أخرى، ويبدو أن توجيها بعدم الإزعاج أو الاعتداء البدني على الموقوفين قد عمم عليهم.

في صباح أحد الأيام تم استدعائي للتحقيق، إذ تم فتح المزلاج المعدني في باب الزنزانة مصدرا صوتا كريها، و وقف السجان مخاطبا إياي طالبا مني التوجه إلى التحقيق: هيا بسرعة إلى التحقيق... إنزع حذاءك... لا تبق شيء على جسدك ماعدا البنطال! وهكذا خرجت عاري النصف الأعلى من جسدي (علمت من المعتقلين الآخرين أنني كنت محظوظا... ففي الفترة الأولى كان التحقيق يتم والسجين عار إلا من السروال الداخلي فقط) في ثاني أيام كانون الثاني البارد أخطو على الأرض الرطبة بجاربي الذين لم يخطر ببالي نزعهما، وأنا أحاول تلمس مواقع قدمي بجهد وحذر لأن السجان كان قد عصب عيني و وضع قيدا أحاديا في كلا معصمي الذين أمرت أن أضعهما وراء ظهري، ومن ثم كان يمسك بعضدي مرشدا لي في أي اتجاه أسير وأية درجات أهبط أو أصعد.

وأتت اللحظة التي كنت أنتظرها... السؤال الذي طرق أذناي مبددا كل حيرتي و تخبطي في معرفة سبب اعتقالي، فبعد أن قدمت نفسي يالطريقة التي تم تعليمي إياها "الموقوف همام يوسف سيّدي المحقق"... سألني الضابط (عرفت أنه كان برتبة عقيد فيما بعد، وأن اسمه "عامر العشي"): ما علاقتك بحزب التحرير؟

وتنفست الصعداء... و حدثت نفسي... "إذن هذا هو السبب... يا لهذه المشكلة التافهة... هذا أمر قديم ولاشك أنهم عندما يعرفون أنني منقطع عن الحزب منذ حوالي السنوات العشر، سيدركون تفاهة المسألة." أجبت: ليس لي علاقة معهم الآن... كان لي علاقة قديمة و انتهت. وتابع أسئلته مستفسرا عمن كان معي في الحلقة؟ وما كان اسم مدير الحلقة؟ وكيف ومتى كنا نجتمع؟ ماذا كنا نقرأ؟ وعن المبلغ المالي الذي كنت أسهم به للحزب...الخ، أسئلة تنم عن معرفة شاملة و مفصلة بدقائق الأمور، مما أكد لي احتمال صحة ظني أن أحدا من أفراد حلقتي القديمة قد تم القبض عليه لسبب أو لآخر، إلا أن هذا لم يزعجني كثيرا لأن جميع الذين كانوا معي في الحلقة كانوا قد أنهو علاقتهم بالحزب في الوقت ذاته وللأسباب ذاتها. كنت أجيب على أسئلة المحقق بالقدر الذي يكفيه و لا يورطني في أسئلة أخرى بشكل مقنع، فطوال الوقت كنت هادئا متوازنا و"متجاوبا" فما كان منه إلا أن قال لي: إذهب واكتب تقريرا بالذي قلته لي الآن.

وبعد أن كتبت التقرير الذي يبدأ بالعبارة: "تقرير الموقوف فلان الفلاني... سيّدي المحقق..." والذي لم يتجاوز نصف الصفحة (الأمر الذي أثار استغراب واستهجان السجان الذي حذرني من إغفال أي شيء؛) تم إيصاله إلى المحقق وتمت إعادتي إلى الزنزانة لأنتظر هناك يومين آخرين قبل استدعائي للتحقيق للمرة الثانية عصر أحد الأيام.

وفي هذه المرة خلعت جواربي لأنني لم أرد أن تتسخ بمياه الأمطار المختلطة بالأتربة والأوساخ... قادني السجان إلى غرفة تحقيق مختلفة بحسب تقديري (لأنني كنت معصوب العينين كالعادة،) وفي هذه المرة كان الأمر سريعا فبعد أن قدمت نفسي "الموقوف همّام يوسف سيّدي المحقق (كم كنت أكره كلمة "سيّدي" وكنت أبذل جهدا لقولها) سألني المحقق بشكل مباشر ومباغت من هما فلان وفلان؟!!

لحظتها شعرت أن جبلا قد انهار فوق رأسي وأن نارا قد اشتعلت في صدري وجففت الدماء في عروقي، وأدركت أن الأمر أكبر وأكثر اتساعا مما ظننت سابقاً، وأن الأمر سوف يستمر بالاتساع وسوف يصل إلى أشخاص ليس من المهم أو الأساسي بالنسبة للجهات الأمنية أن تعرفهم، وهم لن يقدموا أو يؤخروا في شيء بالإضافة إلى حقيقة أنهم أيضا كانوا قد أنهوا علاقتهم بالحزب بشكل مؤكد، وهم يعيشون حيواتهم بهدوء وسلام مع زوجاتهم وأبنائهم! كيف وصلت أسماؤهم إلى المحقق؟! من هو الذي تبرع بهذه الأسماء علما أنه من الممكن عدم ذكرها؟!! كيف سألتف حول الموضوع دون تعريض آخرين لهذا الذل وهذه الأساليب المتخلفة القميئة؟!!

كل هذا احتشد بتسارع تجاوز الزمن مخلفا احتقانا عالي الضغط في دماغي الذي غاب لفترة لا تزيد عن الثانيتين!! وهنا قررت أن أجيب بتساؤل علي أتيح لنفسي التفكير لثوان أخرى: من فلان وفلان سيدي؟ (وكان قد ذكر فقط اسميهما فقط دون لقبي عائلتيهما.) هنا انقلب عالمي رأسا على عقب، إذ ما أن سمع كلماتي حتى قام باستدعاء السجان بصوت الجرس الكريه وهو يقول: "ما بتعرف مين هنّن لكن... هلأ منشوف شلون رح خليك تعرف... خدو عالدولاب."

الدولاب تسمية معروفة لكل السوريين بفضل الثقافة الإرهابية الرسمية، وكانت له رهبة وغموض أسود خاص به، ورغم معرفتي ويقيني التاميين أن المحقق يعرف تماما من يسأل عنهما (وإلا كيف ذكرهما بهذا التحديد وسألني أنا عنهما، فهو لم يقل: هل تعرف...؟ بل قال: من هما... ؟ أي أنه كان يختبر مدى طواعيتي، وربما كان يريد زيادة تأكيد معلوماته -وهو ما تبين لي صحته فيما بعد- ويريد مني إقرار صحة ما لديه،) و رغم يقيني أنني بإمكاني تجنب "الدولاب" فقط بإقراري بمعرفتهما قبل أن أغادر الغرفة! إلا أنني كنت أريد لقاء هذا الغول الغامض ومجابهته وجها لوجه، وهكذا لذت بالصمت منتظرا هذا الدولاب البعبع.

لم يكن لقاءا جيدا... فبعد أن جرني السجان من عنقي خارجا، وقادني إلى زاوية ما لا أعرف مكانها أو جهتها، أمرني متلفظا بأشنع الألفاظ -التي تجود بها ألسنة أقذر مخيلة بشرية يمكن تخيلها- بالاستلقاء على بطني وثني ركبتيّ رافعا قدماي إلى أعلى بحيث يصبح باطنيهما متجها إلى أعلى، مما سهل عليه الانهيار (كانهيار الجبال) عليهما بعدد فقدت القدرة على إحصائه من الصواعق الخيزرانية التي كان أصوات حفيفها وهي تشق الهواء تختلط بأصواتها وهي تصطدم بلحم قدميي (العاريتين المبللتين بمياه الوحول) وتمتزج بصراخي و جعيري (لم أكن أتخيل أن الإنسان يمكن أي يصدر أصواتا كوحوش الغابات قبل ذلك،) ويتخلل ذلك كله أشنع الشتائم النابية التي لا يمكن لإنسان له أم أو إخوة أو أخوات أن يرضى بسماعها عن شخص آخر، فكيف عن نفسه؟!!

لم يكن دولابا كما تخيلته... إلا أنني بعد أن فقدت القدرة على إحصاء العدد، قررت الاستسلام فأخبرته باكيا (وهذا أمر يصعب الاعتراف به عادة) لشدة الألم أنني أعرف الشخصين الذين سُألت عنهما. فنهرني آمرا بالوقوف فلم أستطع وضع قدماي على الأرض بالكامل لشدة الألم، فسرت متباطئا أمشي على جانبي قدميّ كالكسيح عائدا إلى الزنزانة، فعلى مايبدو أن المهمة قد أنجزت... ولم يكن مهما أن يسمع الضابط تأكيدي بمعرفتهما في تلك اللحظة!

كتبت التقريرالمطلوب بأنني أعرف الشخصين المذكورين وذكرت أنني لا أعرف عنوانيهما الحاليين فنحن لم نلتق لسنوات، وقمت بتزويدهم بعنواني سكن أهلهما الذي أعرفه؛ وهكذا... وبعد أن مر علي يومين أو ثلاثة مع عناصر الأمن المسجونين، جاءني السجان في ليل أحد الأيام وفتح مزلاج الباب الحديدي قائلا: هيا بسرعة... إجلب أمتعتك وكل ما جئت به واخرج... قلت له: هل أخلع الحذاء؟ فأجاب بالنفي... واعترتني فرحة اجتاحتني كموجة دافئة محدثا نفسي: "أخيرا انتهى الكابوس... هاقد تم التحقق من الأمور وأنني منقطع عن الحزب لقناعة آمنت بها منذ سنوات عشر خلت، لقد أدركوا أنه من العبث محاسبة شخص آخر مختلف تماما عن ذلك الشاب الصغير، فالعقاب الرجعي الأثر أمر يكاد يكون نكته في حد ذاته... وهنا سألت السجان إن كان بإمكاني مصافحة زملاء الزنزانة مودعا، فابتسم بامتعاض: لا مانع... هيا أسرع" ففعلت ذلك وحملت معطفي الشتوي وسرت أمامه (وهو إجراء أمني منعا لاحتمال تعرض السجانين لاعتداء) متجها نحو باب مبنى الزنازين الثقيل، وتوقفت هناك منتظرا أن يفتح على حريتي الحبيبة، فما كان منه إلا أن أشار إلي قائلا: إلى أين...؟ تابع مسيرك تابع... قف أمام ذلك الباب، مشيرا إلى باب حديدي عريض إلى يساري، وقفت هناك ريثما يفتح الباب على ظلام غطى أشباح أجساد بشرية تصطف بمحاذاة الجدار وظهورها بمواجهتنا... كنت على درجة من الذهول والخيبة سمرتني في مكاني ما حدا به أن يدفعني إلى الداخل مغلقا الباب ورائي بصوت المزلاج الكريه، بعد أن خطوت خطوة واحدة إلى الأمام مما جعلني في وسط الغرفة تماما. بدأت الهامات البشرية تستدير ببطأ موجهة أنظارها إلي واقتربت الوجوه نحو وجهي بعيون يملؤها الفضول والعطش.

كانت تلك زنزانة "جماعية" تحوي 21 نزيلاً يتقاسمون مساحة تتجاوز الأمتار الستة بقليل فأبعادها كانت (220X320 سم) تفترش أرضها البطانيات المهترئة، وينيرها ضوء أصفر للمبة زجاجية معلقة عل الجدار قرب السقف... ذلك كان منزلي لشهور ثلاثة.

يمر الوقت بتسارعات مختلفة بل ومتناقضة احيانا، إذ يطير الوقت بسرعة البرق بعد الساعة الثامنة أو التاسعة مساءاً وهكذا إلى بزوغ الصباح. ثم يتباطأ بشدة مميتة منذ الاستيقاظ حوالي السابعة والنصف صباحا -موعد بدأ الدوام الرسمي وممارسة الضباط والعساكر مهامهم الرسمية الوظيفية بجلد المواطنين المعتقلين أو تعذيبهم والتحقيق معهم- إلى أن ينتصف النهار ويهل وقت الغداء في االثانية عشرة والنصف أو الواحدة؛ خلال هذه الفترة تكون أعصاب المعتقلين في الزنازين من التوتر والتحفز والهلع بحيث يمكن أن تتقصف كما لو أنها أغصان شجرة جافة.

ويزيد من القهر المعدني المصمت للثواني المتعمدة البطأ، تلك الصرخات المترعة بالألم والرعب التي يطلقها المساكين الجدد الذين كانوا يصلون على فترات، أثناء اجتيازهم جحيم الاعترافات الأولى، في مواجهة الدولاب أو وسائل وحشية أخرى لكل حسب عتبة ألمه قبل القبول بسطوة الألم الخبيثة على الأبدان والأرواح.

وما أن يبدأ توزيع طعام الغداء حتى تأخذ النفوس بالهدوء لأن التحقيق وما يلازمه من تعذيب وإهانات يتوقف كي يتمكن الجميع من تناول طعامهم! أي حوالي الساعات الثلاث أو الأربع.

كان الغداء يعد (في الغالب) في مطابخ القطعة العسكرية التابعة للمخابرات الجوية في مطار المزة العسكري حيث كان فرع التحقيق والمداهمة أيضا. ولم تكن الكميات كافية لجميع المعتقلين وغالبا ما كانت السرقات تؤدي إلى إنقاص كميات الخبز من ثلاثة أرغفة إلى رغيفين فقط للفرد، وينطبق الأمر ذاته على الزيتون والحلاوة ومربى المشمش، وأذكر على سبيل المثال كيف كانت حصة 20 رجلا من الحلاوة المخصصة لطعام الإفطار (كانت حصص الإفطار توزع في الليلة الأسبق) لا تكاد تبلغ قبضة اليد في أحد الأيام، أما الزيتون فكان نصيب المعتقل منا يتراوح مابين حبتي زيتون إلى سبع حبات في أفضل الأحوال، وكثيرا ما كنا نأكل قشور البرتقال ونتقاسمها لشدة الجوع عندما ينوبنا بعض حبات البرتقال أو الـيوسف أفندي (ماندارين.)

بعد الغداء، أي في فترة النوبة المسائية، إلى مابعد التاسعة بقليل يعود الوقت لتباطؤه القاتل المعتاد بسبب عودة عجلة التحقيق الروتينية للدوران من جديد، أي التعذيب والصراخ والضرب والشتائم والاستغاثات المفتته للأعصاب

إضافة إلى هذه العجلة الجهنمية التي تقرض المشاعر والأحاسيس وتتلاعب بسلامة العقول وتوازنها بسبب تكرارها اليومي الحتمي، من توتر إلى راحة فشد عصبي إلى استرخاء يليه ضغط، خوف وهلع يليه لحظات من الفرج تليها ساعات من الرعب والتحفز ثم النوم القلق كالسردين (ليس مجازا بل واقعا حرفيا) إلى الاستيقاظ على صوت السجان الذي يفتح الباب بقوة مصدرا صوتا إرهابيا ممقوتا ومناديا على اسم مسكين من الخراف التي غلب على أمرها؛ إضافة لكل ذلك كنا نعاني من معضلات ثلاث في فرع التحقيق:

مشكلة النوم وانتشار القمل والجرب (نظرا للتكدس وحقيقة بقائنا بلا استحمام لفترة خمسة أسابيع على الأقل)
الخروج للتغوط أو التبول (نتيجة للعدد الكبير من المعتقلين و وجود فقط أربعة كبائن تغوط للجميع)
قلة الطعام ونوعيته السيئة (العديد من المعتقلين فقدوا من 10 – 20 كغ من وزنهم)

ورغم انتقالي مع اثنين آخرين من الزنزانة الجماعية (بناءا على طلبنا) بعد حوالي الثلاثة أشهر من العيش فيها إلى زنزانة إفرادية، إلا أن المشاكل استمرت كما هي، فقد انضممنا إلى نزيل موجود قبلنا في الزنزانة واستمرت إضافة معتقلين آخرين إلى أن وصلنا في إحدى الفترات إلى سبع أشخاص في مكان مخصص لاثنين بالأكثر! وكنا ننتظر اليوم الذي يتم نقلنا فيه إلى سجن رسمي كصيدنايا، وهو ما حدث فعلا في صباح 29/5/2000.

مرحلة صيدنايا تختلف جذريا عن مرحلة التحقيق من حيث سعة المكان كمية الطعام والنظافة الشخصية، بالإضافة إلى أمر مهم جدا هو انتهاء الشد النفسي الناتج عن كل ما كانت تثيره حفلات التعذيب من رعب وقلق وجوديين، إلا أنني أستثني منها فترة الأسبوعين الأولين حيث شهدنا فيها فيضانا من الشتائم المقذعة والإهانات الجسدية والمعنوية والضرب العنيف المباشر من صفعات و ركلات و لكمات (بقيت لمدة شهرين لا أستطيع الاستلقاء على جانبي الأيمن بعد أن لكمني المدعو "فاطر" على أضلاع صدري التي أظنها كسرت في تلك الحادثة.) سبب ذلك أن إدارة السجن استقبلتنا على أننا عملاء وجواسيس للعدو الصهيوني وأننا منتمون إلى جماعة الإخوان المسلمين!! ولم يتم إعلامهم بحقيقة أمرنا وأننا كنا بنسبة 50-60% من الجامعيين و حتى من حاملي شهادات عليا في الجراحة و الهندسات والصيدلة... الخ، وكنا نمتنع عن إخبار عناصر الشرطة العسكرية بذلك تجنبا لزيادة الإهانات والقهر عندما يعلمون أننا تجاوزنا البكالوريا بنجاح!!

تغير هذا الوضع بعد قدوم اللجنة الأمنية التي قابلت عدة أفراد رشحوا لذلك، حيث أعلموا أعضاء اللجنة أننا ( حوالي الـ 250- 300 ) موقوفون على ذمة حزب التحرير الذي لا علاقة له بالإخوان المسلمين أو أعمال عنف مسلحة أو غير ذلك (لم يتم العثور على قطعة سلاح واحدة لدى أي من المعتقلين الذين قارب عددهم الـ 450 توزعت أماكن احتجازهم ما بين فروع التحقيق والمنطقة وإدارة المخابرات الجوية.) بعد هذا اللقاء تحول وضعنا من موقوفين على ذمة التحقيق إلى سجناء رسميين! فقط بقرار من اللجنة وليس نتيجة محاكمة! وهكذا منحنا كل ما يمنح للسجين الرسمي ورفعت عنا المعاملة المتوحشة بعد حوالي الأسابيع الثلاثة. هذا كان يعني فتح المهاجع العشرة التي يتألف منها الجناح ( - أ- يسار، الطابق 3) على بعضها طيلة النهار، الحصول على المشتريات و فترات التشميس في الباحة وقراءة الجرائد الرسمية وبعض الكتب المتوفرة.)

المحكمة
تمت جدولة أسمائنا للمثول أمام محكمة أمن الدولة على دفعات وقد كانت المحاكمات تسير على نظام 3 مراحل التحقيق، توجيه الاتهام، ثم جلسة النطق بالحكم. تم عرض الجميع على المحكمة بالنسبة للمرحلة الأولى، و تمت متابعة المرحلة الثانية مع أعداد قليلة ولكن لم تكتمل بالنسبة للجميع بسبب صدور عفو بشار الأسد الشهير بتاريخ 16/11/2000، والذي عفا بموجبه عمن قد تجاوزوا فترات أحكامهم المفترضة! ( إذ كان من المنتظر الحكم على كل من تشبه حاله حالي -أي الغير حزبيين- بستة أشهر بتهمة كتمان المعلومات!) وهكذا أطلق سراحي بعد مرور العام تقريبا على اعتقالي.

الاحتكاك مع بقية المعتقلين
مما لفت انتباهي من خلال احتكاكي مع معتقلي حزب التحرير -الراهنين حينئذ- أن السوية الثقافية الحزبية وسوية المحاكمات العقلية العلمية والمحاججات المنطقية قد انخفضت بشكل ملحوظ عما كنت عرفته قبل تسعة أعوام، وقد عزوت هذا إلى حقيقة اعتقال عدد لا بأس به من أعضاء الحزب المهمين في بداية التسعينات وانسحاب عدد ملحوظ من الدارسين في ذلك الوقت، مما دفع الحزب حينئذ إلى انتقاء قيادات بديلة بشكل إسعافي لم يتوخ الحرص على سوية ثقافية أو علمية عالية كما هو المألوف عادة، مما أدى إلى تحويل نشاط الحزب بشكل أكثر مما مضى إلى زيادة الانتشار الأفقي بتسارع كبير عاد بأثر سلبي على سوية التحصيل والبناء الثقافي الفردي، أي بكلام آخر أن الحزب عمل بشكل واضح على زيادة أعداد الموالين له على حساب إعداد نخبة قيادية راسخة، الأمر الذي كان موجودا دائما ضمن النهج العملي للحزب إلا أنه لم يسبق له أن كان على الشكل المرضي الذي خبرته.

وأيضا قد يعود تقييمي السابق للسوية المتواضعة لأعضاء حزب التحرير ولاية سورية إلى حقيقة استمراري بالاحتكاك أكثر وأكثر بعالم الفكر ووجهات النظر والتحاليل المختلفة للخلل الذي يعاني منه العالم الإسلامي، والانفتاح الفكري الكبير على جميع الطروحات المتواجدة على الساحة والتي تنوعت مابين الإسلامي و اللا إسلامي والليبرالي والمحافظ والعلماني.... الخ.

نتيجة لكل ما سبق فقد كان الاحتكاك مع الحزب يتراوح مابين النقاش الفكري للجذور المفهومية التي بنى عليها الحزب هيكله الفكري، وما بين المشاحنات الكلامية والمواقف المتصلبة العدائية التي تولدت نتيجة تصنيفي مع مجموعة من الأشخاص على أننا نشكل خطرا فكريا ويجب نبذنا! إلا أن هذه الفترة أتاحت لي اختبار جميع المفاهيم التي كنت أحملها كمسلم "لا عنفي" والتي كنت أعيشها و أطورها بناءا على ما اكتسبته من المفكر جودت سعيد ومالك بن نبي بشكل أساسي وفكر المقاومة المدنية بشكل عام، وكان من نتيجة ممارستي لحياتي وسلوكياتي بناءا على هذه القناعات أنني تركت السجن وقد اكتسبت من الأصدقاء والمتعاطفين العدد الكثير رغم إدراكهم بشكل واضح لا يخالطه شك أنني مختلف عنهم.

الشيء المهم الذي لا يجب أن يتم تناسيه هو وجود براعم تيار إسلامي تنويري متحرر قادر على التواصل مع الأطراف جميعها، الإسلامية وغير الإسلامية التي تنشط في الساحة السورية والعربية بشكل أوسع، تيار يعتقد أن «ما ينفع الناس يمكث في الأرض، وأما الزبد فيذهب جفاءا» كقاعدة تحكم جميع مشاريع النهضة والإصلاح أو التغيير، تيار يعتقد أن «العدل» و «النفعية» هي المقدسة وليس الأشخاص الكلمات أو الحروف بحد ذاتها. هؤلاء كانوا بعض الذين التقيت بهم هناك.

وللمفارقة بعضهم أيضا كان من «التيارات العلمانية» الذين كنت أستطيع وأستمتع بالحوار معهم على عكس معظم من كانوا حولي من المنتمين إلى التيارات الإسلامية التي تحجرت على تقديسها لقادتها أو مشايخها بشكل أعمى ومنزه عن النقد الذاتي الضروري لأي حركة تتوخى البقاء والتطور، بمن فيهم حزب التحرير الذي قدس النبهاني لشخصه لا لإبداعه و قدرته على الاجتهاد، والله أعلم.


<>- كيف اختلف همّام ما بعد الاعتقال عنه ما قبل الاعتقال؟ وكيف تقيم تلك التجربة بمجملها بعد هذه السنوات على مرورها؟

لا أظن أن هناك تغيرا كبيرا حصل لي إلا من باب تقديري للحياة بأبسط جوانبها وتفاصيلها التي غالبا ما نمر عليها كما لوأنها أمرا اعتياديا. إن مراقبة السماء لحظة غروب الشمس أمر لن يشعر الإنسان بجماله مالم يحرم منه أو يراه من خلال قضبان الأسر، وتصبح قدرتنا على التغوط أو التبول لحظة حاجتنا له أمر غير مفروغ منه كما نعتقد.

ما يجب أن نعرفه عن السجين والمعزول في زنزانة إفرادية على وجه الخصوص هو أنه يموت في اليوم الواحد بعدد المرات التي يوقظه بها الوعي المفاجئ على حقيقة قبوعه ما بين أربعة جدران صماء لم ولا ولن تتغير مهما طال زمان بقائه بين جوانحها.

ولا أدري في الحقيقة أين يمكن أن أضع تجربة إعتقالي الماضية على وجه الدقة، لكن ما أعرفه هو أن الإنسان مستعد لأن يدفع ثمن أفكاره وقناعاته التي يحملها مهما بلغت هذه الأثمان، ويستوي في هذا المنتمين إلى التيارات جميعها على اختلافها بل تناقضها أحيانا. إلا أن الاطمئنان الذي يحمله "اللا عنفي" في داخله أمر لا يقدر بثمن. إن قدرتنا على كسب ثقة من نختلف معه بنا وبمصداقيتنا هي أحد أهم المقاييس لنجاح الحراك المدني الذي نعتقد بصحة توجهه.

تجربة الاعتقال والسجن لم تكن خيارا بل قضاءا من الله، وأنا إن لم أستطع إدراك تتالياتها أو ما سينبني عليها مستقبلا فهذا لم يمنعني من عيشها بالشكل الذي ارتضيته لنفسي، إلا أنني لا أرغب بتكرارها ثانية وهذا أمر فطري مفروغ منه.

<>- إذا قررت الانتساب لحزب سياسي الآن، فهل سيكون حزب ديني؟ ولماذا؟ وكيف تنظر الآن إلى تجربة الإسلام السياسي؟

إن كان هناك من حزب أرتضي الانتماء إليه فسيكون حزبا قريبا من نموذج حزب العدالة والتنمية التركي. إن طبيعة إيماني بالإسلام كفلسفة حياة وكون لا تخلق تضاربا أو تناقضا ما بين الإلهي والموضوعي وهما بالنسبة لي وجهان لعملة واحدة. إن الإيمان بالله بالنسبة لي يعني الإيمان بالحرية كشرط لازم غير كافي للتنمية والعطاء والعدالة.

ما يصنف اليوم على أنه إسلام سياسي هو تعبير موضوعي عن فكر وثقافة موجودان موضوعيا ويجب الاعتراف بهما، وكان يمكن لتيارات الإسلام السياسي الحالية أن تجد نفسها على المحك إن أتيح لها الوجود والحراك إلى جانب مجموع التيارات الأخرى العلمانية الليبرالية اليسارية ....الخ، إلا أن القمع والمنع والإقصاء سيؤديان في النهاية إلى تفجر عشوائي مدمر سيأخذ معه الأخضر واليابس. ومن غير شك أن تصلب بعض تيارات الإسلام السياسي في رفضها للعملية الديموقراطية من حيث المبدأ كحزب التحرير على سبيل المثال لا الحصر، تخلق لنفسها كابحا ذاتيا سيزيد من احتقانها الداخلي وبالتالي يزيد من تشنجها وتمسكها الشديد بمواقفها الإقصائية المتطرفة للآخر المختلف.

ويتضاعف القلق من كوارث تفكك بل اصطراع تناقضات مجتمعيه داخلية؛ إن تلاقت تطلعات الشريحة الأكبر من شرائح المجتمع السوري، وأقصد بها الطائفة السنية تحديدا، للحرية والعدالة والتنمية والرخاء، مع الوعود المعسولة التي تبثها اتجاهات سياسية تنتمي إلى الخلفية الدينية المشتركة ذاتها دون أسس موضوعية منطقية قابلة للتحقيق، وخصوصا في أجواء القمع والقهر وكم الأفواه والآمال وانعدام فرص التعبير عن الذات في جو من الحريات الأساسية العامة. هذا اللقاء ما بين إحباطات مكبوته وبين تشدد وتشنج إتجاهات إسلام سياسي إقصائية هو الأمر المخيف والمحذور. والوضع السياسي القائم من أبعد ما يكون عن تقديم حل ناجع إن لم نقل أنه يسهم بشكل مثابر على تكريس هذا التأزم ومن ثم التهديد بتفجيره بغباء سياسي يتناسى أن قوة الانفجار ستطيح بالجميع بمن فيهم من سيحرر عتلة التفجير.

ليس كون الأحزاب دينية أو لا دينية هو المشكلة، الخطر يكمن في الثقافة الإقصائية الشمولية التي تعاني منها المذاهب أو الاتجاهات أو الجماعات و الطوائف و الحركات و حتى العلمانية منها.

3 comments:

Anonymous said...

يا ظلام السجن خيم ....إننا نهوى الظلاما
ليس بعد السجن إلا.... فجر مجد يتسامى

همّام يوسف said...

ظلا م السجن هو نور الأحرار

عسى أن تتحرر أمتنا من سجونها الذاتية لترى نور الله... نور الحرية

فاطمة حافظ said...

رغم أني قرأت هذه الرسالة كاملة حين نشرت للمرة الأولى، إلا أنني كلما مررت على المدونة أبحث عنها واقتطع منها بعض فقرات
رغم فائدتها الفكرية وبخاصة جزئية حزب التحرير إلا أن ما يروقتني فيها القدرة على رسم صورة حقيقية جدا لحياة المعتقل دون صراخ وتأوه مكتوب ولكني استشفه وأحسه بشدة
واتمنى عليك أن تواصل وترسم لنا بالكلمات لحظات الحرية حين لامست الهواء والرحابة ووطأت أرض الشارع للمرة الأولى