Sunday, November 12, 2006

البابا والإسلام: الجدال الحقيقي

البرفسور طارق رمضان يحمل درجة الماسترز في الفلسفة والأدب الفرنسي، و درجة البروفسور في الدراسات العربية والإسلامية من جامعة جنيف.كما تلقى البروفسور رمضان تدريبا مكثفاً في الدراسات الإسلامية الكلاسيكية (الفقه الإسلامي) من جامعة الأزهر في القاهرة، جمهورية مصر العربية. وهو حاليا يشغل منصب البرفسور في الدراسات و الفلسفة الإسلامية في جامعة أوكسفورد.

وقد نشر السيد رمضان بتاريخ 21/9/2006 بمناسبة أقوال البابا بيندكت الأخيرة حول الإسلام، مقالة أقدمها بدوري للقراء الكرام في محاولة للاطلاع على الرؤى المختلفة لهذا الأمر الذي شغل العالم، وخاصة الإسلامي لبعض الوقت، بل ربما ما تزال تداعيات هذا الحدث مستمرة حتى الآن!

البابا والإسلام: الجدال الحقيقي

ترجمة: همّام يوسف

جمل قليلة ألقاها البابا بيندكت السادس عشر كانت كفيلة بإثارة عاصفة نارية مستعرة من ردود الأفعال. و على امتداد العالم الإسلامي، ضمّ رجال الدين، الرؤساء، السياسيون، والمثقفون، أصواتهم إلى أصوات الجموع المحتجة التي أغضبتها "الإهانة" الموجهة لدينهم حسب فهمهم. معظمهم لم يقرأ كلمة البابا، واعتمد البعض على الملخصات البدائية السريعة، التي -بحسبها- ربط البابا الإسلام بالعنف. لكنهم جميعاً اتحدوا في مواجهة ما رأوه على أنه تهجم لا يمكن التغاضي عنه.

و مهما كانت محاججات هؤلاء المثقفون والفقهاء، فقد كان يؤمل لو أنهم تبنوا مقاربات أكثر عقلانية في انتقاداتهم و تساؤلاتهم، لسببين اثنين،

  • أولهما: على الرغم من المحبة الخالصة التي لا يراودها الشك، والإكبار الذي يكنه المسلمون لنبيهم محمد، فنحن على علم تام كيف ستتلاعب جماعات أو حكومات معينة بأزمات كهذه، وتستخدمها كصمامات أمان لشعوبهم المتململة ولخدمة أجندتهم السياسية الخاصة في آن معاً. فعندما يحرم الناس من حقوقهم الأساسية وحريتهم في التعبير، فلن يكلف الأمر الكثير إن تركوا لينفسوا عن احتقاناتهم وغضبهم، بصبها على رسوم كاريكاتورية دانماركية، أو على كلمات البابا!
  • ثانيهما: ما نشهده حقيقة، هو احتجاجات جماعية تتمثل بشكل رئيسي بفيضانات انفعالية غير منضبطة، تنتهي ضمن هذا السياق، بتقديم الدليل الحي على أن المسلمين لايمكنهم الانخراط في جدل عقلاني، وأن العدوان اللفظي والعنف هما القاعدة في الغالب، لا الاستثناء! والمثقفون المسلمون يتحملون المسؤولية الرئيسية، في عدم إعطاء المصداقية للعبة غير مجدية كهذه.

البعض،الذين جادلوا بأن البابا قد أساء للمسلمين، طالبوا باعتذار شخصي. وقد أبدى بنيدكت السادس عشر أسفه، لكن الجدل لم يخبو. فهناك فسحة واسعة لتسبيب الفزع من اقتباس لمقولة غامضة من القرن الرابع عشر، تنسب للامبراطور البيزنطي مانويل الثاني بالايولوغوس، ينتقد فيها أفعال نبي الإسلام الحاقدة. وبالفعل، إن اختيارالبابا لأمثلته في محاولته لإبراز العلاقة ما بين العنف والإسلام، يثيرالتساؤل إن لم نقل الاستغراب! و بالقدر المفاجيء ذاته كان استشهاده بالعالم الظاهري ابن حزم – شخصية تتمتع بالاحترام إلا أن مدرسته الفكرية تعتبر هامشية- لتناول موضوع الإسلام و العقلانية. وربما كانت المحاولة بمجملها أقرب إلى الهلامية، تفتقر إلى الوضوح، سطحية وربما لدرجة معينة، خرقاء، لكن هل كانت إهانة تستوجب المطالبة باعتذار رسمي؟ وهل من الحكمة أو العدل أن يتخذ المسلمين موقع الهجوم، بسبب مضمون إقتباس ما – فقط لأن البابا اختاره، بينما يتم التجاهل لتساؤلات يومية واجهتهم للسنوات الخمس الماضية، حول معنى "الجهاد" واستخدام القوة؟ البابا بيندكت السادس عشر رجل زمنه، والأسئلة التي يطرحها على المسلمين هي أسئلة الواقع اليوم: تساؤلات من الممكن، بل من الواجب الإجابة عليها بشكل لا لبس فيه، وبمحاججة راسخة. وكبداية، علينا أن لا نقبل أن يتم تفسير "الجهاد" بـ "الحرب المقدسة". ويجب أن تكون أولوية عندنا أن نشرح مبدأ "المقاومة المشروعة" و"الأخلاقيات الإسلامية أثناء الحروب". لا أن نشجع الناس على التظاهرات العنيفة كرد فعل على اتهامهم بأنهم يؤمنون بدين عنيف!

وقد يكون الشيء الأكثر إقلاقاً في هذه الأزمة، هو أن الجدال الحقيقي الذي أثاره البابا بيندكت السادس عشر غاب عن أذهان معظم المعلقين. ففي خطابه الأكاديمي حاول بناء فرضية مزدوجة مصحوبة برسالتين اثنتين،

  • فهو يذكر أولئك العقلانيون العلمانيون الذين يودون تخليص "التنوير" من صلاته بالـ "المسيحية"، أن هذه الصلات جزء لايتجزأ من الهوية الأوربية؛ وسيكون من المستحيل عليهم الانخراط في حوار مابين الأديان إن لم يقبلوا الأسس المسيحية لهويتهم (متدينين كانوا أم لا).
  • من ثم، بإثارة تساؤل الدين والعقل، والتأكيد على العلاقة المميزة ما بين التقاليد العقلانية الإغريقية و الديانة المسيحية، يحاول البابا التأسيس لهوية أوربية مسيحية الديانة بعقلية فلسفية إغريقية. والإسلام على ما تم تصويره، لا يمتلك صلات كتلك بالعقلانية [كما تم الاستشهاد عليه] سيكون دخيلاً على الهوية الأوربية التي أنشئت على هذا الميراث. فمنذ سنوات قليلة خلت، أبدى الكاردينال –آنذاك- راتزينجر، معارضته لإدماج تركيا في أوربا بناءاً على الأسس ذاتها. فتركيا المسلمة لم تكن ولن تكون أبداً قادرةعلى إثبات ادعائها لثقافة أوربية أصيلة. إنها شيء آخر؛ إنها "الآخر".

هذه هي التساؤلات التي تصرخ مطالبة بالإجابة، أكثر من الكلام عن الجهاد. البابا بيندكت السادس عشر لاهوتي محنك، يحاول التأسيس لمباديء وأطر عمل لحوار حول ماضي، حاضر، ومستقبل الهوية الأوربية، هذا البابا الأوربي المتأصل، يدعو شعوب القارة الأوربية لأن يعوا السمة المسيحية المركزية-التي لا يمكن إغفالها- لهويتهم، والتي يخاطرون بفقدها. رسالة قد تكون مشروعة في زمن أزمة الهوية هذه، إلا أنها عميقة الإشكالية وتحتوي على مخاطر كامنة، في ازدواجية انتقائيتها التاريخية في تعريفها للهوية الأوربية.

وهذا هو الحري بالمسلمين الاستجابة له؛ عليهم أن يتصدوا لقراءةٍ للتاريخ الفكري الأوربي، ألغي منها دور العقلانية المسلمة، قراءةٍ تم فيها تقزيم الإسهام العربي المسلم إلى مجرد الترجمة للأعمال الرومانية والإغريقية العظيمة! الذاكرة الانتقائية، التي، بسهولة شديدة "تنسى" الإسهامات المصيرية للمفكرين "العقلانيين" المسلمين أمثال الفارابي (القرن العاشر)، إبن سينا (القرن الحادي عشر)، إبن رشد (القرن الثاني عشر)، الغزالي (القرن الثاني عشر)، الشاطبي (القرن الثالث عشر)، وابن خلدون (القرن الرابع عشر)، [هذه الذاكرة، بنسيانها] تعيد بناء ليس "أوربا الخدعة" وحسب، بل أوربا تمارس خداع الذات فيما يتعلق بماضيها نفسه! إن كان على المسلمين أن يستعيدوا حيازة ميراثهم، عليهم أن يظهروا بطريقة عقلانية، وخالية من ردود الفعل العاطفية في الآن ذاته، أنهم يشتركون في القيم المركزية ذاتها، التي تم عليها قيام الغرب و أوربا.

لا الغرب ولا أوربا قادران على البقاء، إن استمرينا بمحاولة تحديد أنفسنا بإقصاء وبإبعاد أنفسنا عن الآخر، عن الإسلام، وعن المسلمين الذين نخشاهم. ربما الذي تحتاجه أوربا بشدة اليوم، ليس حواراً مع الحضارات الأخرى، بل حوارحقيقي مع نفسها، مع تلك الجوانب من نفسها والتي بقيت لفترة طويلة ترفض الإعتراف بها، ما حرمها حتى اليوم من الاستفادة الكاملة من غنى مكونات إرثها الفلسفي والديني. على أوربا أن تصالح نفسها مع تنوع ماضيها كي تتمكن من سيادة مستقبلها بتعدديته الحتمية. والمقاربة التقليلية للبابا لم تقدم ما يساعد عملية المصالحة هذه؛ فلا تتوقع المحاولات الإنتقادية منه أن يقدم اعتذاره، بل عليها، ببساطة وبمنطقية أن تثبت له تاريخياً، علمياً، وفي نهاية المطاف روحانياً، أنه لم يصب. وستعطي هذه المقاربة في الوقت ذاته لمسلمي اليوم فرصة لتعريف أنفسهم بالإبداعية الضخمة للمفكرين الأوربيين المسلمين في الماضي، والذين منذ عشرة قرون خلت، قبلوا بثقة عالية بالنفس، هويتهم الأوربية -دون أن تستحوذهم الجدالات العقيمة الحالية حول "الاندماج"- وأسهموا، وأحيَوا، وأغنَوا بتأملاتهم النقدية أوربا والغرب بمجمله.

No comments: