Wednesday, December 27, 2006

تناذر هامان


تناذر "هامان"
أو…
لماذا يجيب اليهود عن السؤال بسؤال؟

بقلم إسرائيل شامير
إلى العربية: همّام يوسف

كلمة ألقيت في باريس 05/12/2006 بمناسبة تقديم الترجمة الفرنسية لكتاب شامير Our Lady of Sorrow، "سيدتنا للأتراح".

الكثير تعلمه اليهود من غلطة حمقاء قام بها عدوّ لهم، "هامان"، شخصية في كتاب "إستير" في الكتاب المقدس. فقد سُئل الوزير الأعظم هامان: "ما الذي يجب فعله للرجل الذي يُسعِد الملكَ أن يكرمه؟" وأجاب الأحمق: "بجب أن يقدم له أعظم التكريم". بطبيعة الأمر، ظن هامان أن الملك "آهاسوروس" كان يقصده هو عندما سأله هذا السؤال. وسرعان ما اتضح لهامان أنه ارتكب غلطة فادحة: فقد كان من يقصده الملك هو عدوه اللدود "مردخاي"؛ وأجبر هامان على تقديم التبجيل لذاك اليهودي.

أيتوجب على الإنسان أن يكون منصفا وعادلا؟ "يوليسيس"، الرجل الهائم عند "هومر" أجاب: نعم بالتأكيد! لأن الآلهة تكره الظلم. غير صحيح! ليس إن أردت أن تحظى بالنساء، كما يرينا "ميشيل هويلبيك" بوضوح في روايته عن ثورة 1968 الفاشلة "جزيئات أولية". يبدو أن الناس قد حاولوا في الماضي أن يكونوا منصفين، ولما لم يكونوا كذلك، شعروا بالخجل من أنفسهم؛ وأنهم الآن قد تخلّوا عن أن يكونوا منصفين. لعل آلهة "يوليسيس" الذين كرهوا الظلم قد غيروا رأيهم؟ أو بالأحرى، هل بدلت الإنسانية آلهتها؟

بداية التغير الكبير يمكن تتبعها إلى الفلسفة الإنسانية حتما، أعني بذلك، قطع أوربا الصلات التي تربط الإنسان بالمقدس في اندفاعها نحو الحرية والسعادة الفردانية. ورغم عدم وجود المرجعيه المباشرة لله، استمر مفهوم الإنصاف بالتأسيس على الشعور الديني. وعلى هذا، أعلن "إيمانويل كانت" في عصر المنطق والتنوير، أن الدافعية الغريزية للإنصاف هي قانون أخلاقي ذاتي في دواخلنا، يتناغم مع السماء المليئة بالنجوم ما فوقنا، وهي إشارة مخفية أخرى إلى الله. "تصرف بالشكل الذي يجعل فعلك باعثا على أن يقلده الآخرون وعلى أن يكون كشرعة عالمية" قال كانت بصيغة الوصية الآمرة، أو بكلمات أخرى، "تصرف وفق تلك الحكمة التي تتمناها أن تكون شرعة للعالم".

وعلى الرغم من ظاهره العلماني، ينبني الموقف الكانتي على المُسَلمَة الخفية والمتأصلة في الديانة المسيحية القائلة بـ "بالمساواة ما بين الناس" (يشترك في هذا المسلمون، أتباع كونفوشيوس، والبوذيون). لكن إن توجب علينا القبول بمُسَلمَة من الشريعة اليهودية، فسنصل إلى نتيجة مختلفة تماما! فحسب الشريعة اليهودية، بعض الناس أكبر قيمة من الآخرين بالوراثة، ولا يمكن لقانون إنساني واحد أن يشمل الكائنات السامية والكائنات الأدنى. هناك قانون للأقلية المنتقاة وقانون آخر للأغلبية المحلية غير النقية، بل وقانون ثالث آخر للتعامل فيما بينهما (يشترك معنا في هذا الهنود البراهمانيون إلا أنهم لا سابقة لهم بالتأثير في ثقافتنا). هذا الخلُق اليهودي أضحى قاعدة قانونية في البلدان التي هزم سكانها الأصليون أو أخضعوا بشكل جذري، أي في الولايات المتحدة و إسرائيل! منذ العام 1968 أسهمت أخلاقية الكيل بمكيالين هذه في استنزاف عالمنا الكانتي إلى الدرجة التي خربت جميع الجهود السياسية المضنية المتعلقة بمفهومي العدل و الإنصاف.

القانون يوصف بالعادل إن صيغ بمصطلحات عامة، تتناول أشياء محددة: "لا تقتل". في الأخلاقيات الكانتية (والمسيحية) على هذا المنع أن يشمل الجميع لكي يكون عادلا. لكن في الأخلاقيات اليهودية التقليدية، "لا تقتل" تعني فقط "لا تقتل اليهود". قتل الآخرين، الكائنات (الأدنى) لا يرقى حتى لأن يكون "جريمة قتل". وبالتوافق التام مع فهم كهذا رحّلت الولايات المتحدة الشهر الماضي امرأة ألمانية تناهز الثمانين عاما على أساس خدمتها كحارسة في معسكر اعتقال في الماضي، ولم تطالب مطلقا بتسليم القتلة الإسرائيليين للبحارة الأمريكيين. إسرائيل تحكم بالسجن المؤبد على العرب الذين يدانون بقتل اليهود. بالمقابل دفع اليهودي الذي قتل خمسين من العرب سنتا واحدا كغرامة!!

إن وافقت على القانون العام: "لا تمتلك أسلحة نووية"، عندها، في العالم الكانتي، هذا المنع يشمل جميع الدول –أو على الأقل جميع الدول التي لم تمتلك أسلحة كهذه عند توقيع اتفاقية منع انتشار الأسلحة النووية. لكن من المنظور اليهودي، فقد أصاب مسؤول أمريكي بتصريحه أنه "لن نتعايش مع إيران وكوريا شمالية نوويتان"، على الرغم أنهم –أمريكا- يعيشون بوفاق تام مع إسرائيل نووية.

الكثير تعلمه اليهود من غلطة حمقاء قام بها عدوّ لهم، "هامان"، شخصية في كتاب "إستير" في الكتاب المقدس. فقد سُئل الوزير الأعظم هامان: "ما الذي يجب فعله للرجل الذي يُسعِد الملكَ أن يكرمه؟" وأجاب الأحمق: "بجب أن يقدم له أعظم التكريم". بطبيعة الأمر، ظن هامان أن الملك "آهاسوروس" كان يقصده هو عندما سأله هذا السؤال. وسرعان ما اتضح لهامان أنه ارتكب غلطة فادحة: فقد كان من يقصده الملك هو عدوه اللدود "مردخاي"؛ وأجبر هامان على تقديم التبجيل لذاك اليهودي.

هذه القصة أعيدت ونوقشت عند اليهود لأكثر من ألف من السنين، وقد علمتهم هذه النقاشات المثمرة أنه: قبل الإجابة عن أي سؤال ذو صيغة عمومية، عليك أن تعرف في أي طرفي المعادلة تقع! وبكلمات أخرى: لا تكن كانتياً ، كن يهودياً. ولو كان "هامان" يهوديا (وهو لم يكن كذلك) لأجاب عن السؤال الملكي بسؤال: "هل هذا الشخص يهودي؟" وفقط بعد أن يعلم ذلك يمكن له أن يطمئن ويستكمل الإجابة. وهكذا، كوننا العالمون النفسيون المنشّؤون منزليا بما نحن إياه، فسنضيف مرضا جديدا إلى القائمة الطويلة لعلم الأمراض العقلية: "تناذر هامان"، مرض عقلي مكتسب من التعلم من غلطة هامان، يؤدي إلى فقدان القابلية على تطبيق " الوصية الكانتية".

لإصابتهم بتناذر هامان، يستخدم اليهود العبارة المناورة: "كيف لك أن تقارن؟" لأجل إحباط المقارنة الإنسانية الكانتية. وإن اشتكى يهودي أن الفلسطينيين يقتلون مدنيون يهودا، حاول أن تجيب: "أنتم تقتلون نساءهم وأطفالهم!" وسوف تلقى عبارة ساخطة: "كيف لك أن تقارن؟" –وربما مصحوبة بسلسلة من الفوارق: هم يقتلون بأحزمة ناسفة، ونحن نقتل بصواريخ موجهة، الخ، والأكثر أهمية لكن نادراً ما يجهر به: نحن نقتل الغويم، لكنهم يقتلون يهوداً!

لكن، من يلقي بالا لما يعتقده اليهود؟ الأهم هو أن الولايات المتحدة وحلفاؤها قد تبنوا المنظور اليهودي. عندما انتخب اليهود "مناحيم بيغن" رئيسا للوزراء، الإرهابي القديم والرجل الذي نسف فندق الملك داوود وقتل 90 رجلا، طفلا، وامرأة، تقبل الغرب "بيغن" كخيار إسرائيل الديموقراطي. لكن عندما انتخب الفلسطينيون ديموقراطيا حكومة أغلبية تقودها "حماس" (ذات الصلات الإرهابية خاصتها)، أخضع اليهود فلسطين للحصار، واحتجزوا الوزراء من "حماس" وصادروا الأموال الفلسطينية –كل هذا بدعم كامل من الغرب. عندما يجوّع اليهود الفلسطينيين ويقتلونهم في قطاع غزة، فهذا "بزنس" كالعادة. لكن عندما دعا الرئيس الإيراني إلى تفكيك النظام الاستعلائي اليهودي، تم استدعاؤه إلى محكمة غربية على أنه مجرم تطهير عرقي محتمل.

وإليكم مثال آخر عن العام بمقابل المحدد، فإنكم إن سعيتم لإطلاق سراح أسرى الحرب خاصتكم، فما عليكم إلا أن تسارعوا لاختطاف بعضا من أعدائكم، جنودا أو مدنيين، بغرض أن تفاوضوا من أجلهم من مركز أقوى. هل يصح هذا؟ حسناً... إن كنتم الدولة اليهودية، وقمتم باختطاف مدني لبناني –ولنطلق عليه اسم مصطفى الديراني- من أجل إنقاذ أسير الحرب "رون آراد"، عندها ستوصفون بـ "الاهتمام لجنودكم". لكن إن كنتم لبنانيون وقمتم باختطاف جندي يهودي لأجل ضمان إطلاق أسراكم الحربيون، فسيكون هذا استفزاز مباشر وعمل عدواني فاضح (بحسب اليسار اليهودي المتنور لـ آموس أوز).

على المرء أن يكون مريضا هامانيا مخلصا كي يتفهم كيف أن القصف الأمريكي النووي لهيروشيما كان عملا حربيا مشروعا، في الوقت الذي كان به "بيرل هاربر" جريمة وحشية؛ ولم "غولاغ" ستالين عملا وحشيا بينما "غوانتانامو" أمر مشروع، لم قصف حيفا جريمة حرب وإمطار غزة بالقنابل ليس كذلك، وكيف أن ترحيل المدنيين اليهود من قبل الألمان كان تطهيرا عرقيا، لكن ترحيل المدنيين الألمان من قبل البولونيون ليس كذلك.

هل يعتبر الحصار البحري عملا حربيا؟ هذا سؤال جيد. إن كان هو الحصار المصري لمنع عبور السفن إلى إيلات، فهو عمل حربي يجب أن يواجه بحرب شاملة مستعره، كما كان الحال عام 1967. لكن إن كان حصارا إسرائيليا للبنان، أو غزة فهو إجراء مسموح به للدفاع عن النفس.

إن أنكرت مجزرة، فمن المؤكد أن أهل الضحايا سيألمون لذلك. أيمكن حصول ذلك؟
بعد أن قصف سلاح الجو الإسرائيلي وقتل العشرات من الأطفال اللبنانيون في قانا في لبنان، نشرت وسائل الإعلام اليهودية مئات الدلائل لإنكارها. قالوا أن الصور كانت إما مدبرة أو تم التلاعب بها ببرامج تحرير الصور، أن صورة طفل ميت، أو حمولة شاحنة من الجثث الهامدة قد أحضرت من مكان آخر!. لكن عندما استخدم المؤرخ البريطاني دافيد إرفينغ المقاربة النقدية ذاتها على "صور أوشفيتز"، تمت تسميته بـ "منكر الهولوكوست" وتم الحكم عليه بالسجن لثلاث سنوات. أودو واليندي أمضى وقتا في السجن لشكه في مصداقية الصور اليهودية، لكن اليهود الذين يشككون بصحة اللقطات اللبنانية أو ينكرون بشكل فاضح مجازر دير ياسين وقانا، يسرحون ويمرحون!

الآن، اليهود ليسوا هم الوحيدون الراغبون أن يكونوا استثناءاً. فبالفعل، قد غدت أخلاقياتهم الغريبة، الأخلاقيات المحدثة لطبقة ما بعد 1968 الحاكمة، العديمة الآلهه والمتمكنة. تاريخهم وتقاليدهم أضحت الشعارات المعلنة للمصابون بتناذر هامان. وقد أضحى اليهود الطفل المدلل بين الأقليات التي تشن الحروب على الأكثرية في جميع أنحاء العالم. لأجل إرباك البقية، يجمعون الأقلية الحصرية لسماسرة سوق المال مع الأقلية من المهاجرين السود البؤساء، مقابل الأكثرية العظمى من الناس العاديين. هوسهم بالأقليات -ولتكن السحاقيات أو الأمهات العزباوات أو المهاجرون غير القانونيين المصابين بالأيدز- له سببه الوجيه، فبهذه الطريقة يحوزون على الأفضلية الأخلاقية لتبرير أقليتهم الحاكمة. وهذا هو السبب أيضا وراء تململ الكثير من الأغلبية، من الأقليات المحرومة، شواذا كانوا أم من السود: وهم على حق إن كانوا (في اللاشعور) يحسّون أن الذين يروجون لقضايا الأقليات لايكترثون في حقيقة الأمر لما تريده الأغلبية.

في البلدان التي تحكمها الأخلاقيات اليهودية الصميمية –الولايات المتحدة وإسرائيل- يتم إخضاع الأكثرية لقانون جديد. الأكثرية السكانية في فلسطين الخاضعة لحكم اليهود محرومة من حقوقها، مسلوبة، وقطاعات العمل فيها فائضة بالعمالة المستوردة الزائرة. غالبية الأكثرية من المدعوين عمالا يهوديون يجبرون على مزاولة أعمال الأوقات الجزئية أو على أعمال التوظيف الذاتي من أجل التوفير في الإعانات الاجتماعية. في الولايات المتحدة "يشن أصحاب العمل حربا ناجحة على الأجور" كتب بول كروغمان في الهيرالد تريبيون. "أرباح الشركات مابعد الحسم الضريبي تضاعفت، لأن إنتاجية العمال ارتفعت، لكن أجورهم لم تبارح مكانها. أطفال عمال والمارت كانو يعتمدون على برنامج ميديك إيد أو افتقروا للضمان الصحي، ومع ذلك يريدون أن يخفضوا من أجور عمالهم أكثر بحرمانهم من الوظائف المستديمة".

دونالد لاسكن، أحد معجبي إسرائيل وآين راند، هاجم كروغمان بسبب "عدائه للساميّة" (هو لم ينتقد مهاتير) وكتب: "يقاس الرجل بما يهتم له. الرئيس بوش رجل عظيم يهتم لأمور عظام مثل حماية أمريكا من الإرهاب العالمي. والصحفي بول كروغمان صاحب العمود في نيويورك تايمز -أشرس خصوم بوش الإعلاميين وأكثر المثقفين الليبراليين المعتوهين في أمريكا- رجل ضئيل يهتم للصغائر من الأمور، فيما إن كان عمال التجزئة يتقاضون أجورا منخفضة من والمارت."
نحن أيضا رجال صغار نهتم للأشياء الصغيرة لأننا نعلم أن الأمور العظام كالحرب على الإرهاب تفتعل من أجل أن نتقاضى أجورا أقل.

أولئك المصابون بتناذر هامان يعلمون أن الناس لن يرضخوا للاضطهاد النازل بهم على مداه البعيد. لذلك يتلازم دوما قهرهم الاقتصادي الذي يمارسونه مع استخدام وسيلة إرهاب الأغلبية. لطالما كان التعذيب والسجن بغير محاكمة مشروعا في إسرائيل. والآن حصلت الولايات المتحدة على "قانونها الوطني وعلى قانون التفويض العسكري" لتأخذ مكانها على السوية ذاتها مع إسرائيل. رشيد خالدي بروفسور فلسطيني حكيم من جامعة كولومبيا قال محقا،ً أن البحث الذي قدمه ميرشيمر/والت بالغ في تأثير نفوذ اللوبي اليهودي على السياسة الخارجية الأمريكية وأنه في الوقت ذاته قلل من تأثير هذا النفوذ على السياسات المحلية من مثال "القانون الوطني". وهذه النقطة بالذات هي ما كنا نثيره طوال الوقت: الهدف الرئيسي لللوبي اليهودي ليس فلسطين، إنما هو حريات الأمريكيين.

سُألتُ مرة إن كان من الضروري الإشارة إلى اليهود مطلقا، علما أنه ليس فقط اليهود –واليهود، فعلا ليسوا فقط- من يساندون حكم الأقليات! بالفعل، المنبع ليس مهما، لأن الجميع لهم الخيار بأن يلزموا صف الأكثرية المسحوقة، أو أن يتطلعوا لأن يكونوا جزءا من الأقلية المنتقاة.
عظام البشرية الحقيقيون كانوا أبناء الأقليات الذين عبروا إلى الطرف المقابل حيث الأكثرية. عيسى الناصري ولد أميرا في آل داوود، جده لأمه كان رجلا ذا شأن في الهيكل، وسدهارتا غوتاما تربى في قصر استعدادا لأن يرث مملكة أبيه. على الرغم من ذلك، هذين الأميرين، المسيح و بوذا، شقوا الطريق للأكثرية. والعديد من ذوي الأصول اليهوديه تبعوا الدرب ذاته. لكن المؤسسات اليهودية بشكل خاص كانت دوما إلى جانب الأقليات، محاولة الحصول على استثناءات لليهود حتى داخل الطبقة المصطفاة ذات الثراء.

إحدى وسائلهم المفضلة هي التنكيل بالذين يطمحون إلى أن يقاس اليهود بالمقياس نفسه كبقية الناس. حسرتي أنني من هؤلاء. فقد دعوت إلى مساواة تامة بين اليهود وغير اليهود في فلسطين/إسرائيل، وأترابي من المواطنين الإسرائيليين لم يرفضوا ذلك، لكن اليهود الفرنسيون حصلوا على إدانة لي في فرنسا لـ "تشويه سمعة اليهود". هذا يبدو عجيبا. لم يهتم الفرنسيون بما يقوله مواطن إسرائيلي لمواطن إسرائيلي آخر حول أخلاقياتهما اليهودية؟ هل فلسطين مقاطعة فرنسية؟ هل تعتبر فرنسا سيادتها مستوعبة للعالم؟ وهل يشعر الفرنسيون بالفخر لأن صلاحياتهم القضائية ذات مدى يصل إلى مدينتي يافا؟ حسناً... لا. هذه هي القضية الوحيدة التي يمكن لمحكمة فرنسية أن تتدخل بها. عدا ذلك، فهم سينكفئون بهدوء، كما انكفؤوا عندما هرب اليهود الفرنسيون كـ فلاتو، وغايداماك، الخ. إلى إسرائيل بالأموال الفرنسية المنهوبة. أما في حالتي، فالجمهورية الفرنسية تسهم بنصيبها الصغير في حماية الاستثنائية اليهودية.

هذه الحماية لا مثيل لها: هل يستطيع الأتراك التوجه إلى محكمة باريسية بمواجهة أورهان باموك، الكاتب التركي الكبير، لتشويهه سمعة الأتراك (بعض الأتراك يعتقدون ذلك)، وهل يمكن لمحكمة فرنسية أن تجد باموك مذنباً؟ حسنا، هذه قصة بعيدة الحصول. الأتراك لن يطلبوها، والفرنسيون لن يقروها. فهناك فقط أمة واحدة فوق القانون تستطيع تمرير أمر كهذا.

هل السبب أن الفرنسيون لا يريدون الإساءة إلى الدين؟ عندما يكون المساء إليه هو المسيحية أو الإسلام، فليس لأتباعهما إلا أن يعضوا على أصابعهم! كتاب أوريانا فالاتشي التهجمي على المسلمين وجدته محكمة فرنسية أمراً مباحاً (فبعض المسلمين –غير عالمين بأمر هامان- دفعهم طيشهم لأن يقاضوها). لكن عندما نَسَبَ الكُتّاب اليهوديون (كالفرنسي إيمانويل ليفيناس مثلاً) إساءة معاملة اليهود على يد النازيين إلى... الديانة المسيحية، لم تسارع أية محكمة للتدخل. أما إن كانت الديانة المساء إليها هي اليهودية، فيذهب المسيؤون إلى السجن. الأمر بهذه البساطة!

هناك سبب وجيه لكون القوانين مناطقية. فنحن جميعا نرتكب الأخطاء بحق بعض القوانين في بقاع معينة. عندما تدخن الحشيشة في هولندا، فإنك تعلم أن هذا سيكون مخالفا للقانون –مثلا- في فرنسا؛ لكنك تعلم أنك آمن في هولندا. عندما تشرب الخمر في باريس، تعلم أنك ترتكب جنحة وفقا للقوانين السعودية، لكنك لست في السعودية وليس عليك أن تقلق. في الاتحاد السوفيتي السابق، كان من الممنوع أن تقرأ "سولزنستين"، لكن كان بإمكان الناشرين الفرنسيين أن يطبعوا روايته "الأرخبيل". لكن هناك إساءة معينة عابرة للقارات، وحيثما ارتكبتها من الممكن معاقبتك عليها، تلك هي: ...الإساءة لليهود.

ولأجل جعل مركزهم الاستثنائي بارزا للعيان، فالمنظمة اليهودية التي تقاضي كل من تسول له نفسه الإساءة إلى اليهود، منظمة CRIF، تدافع الآن عن حق المعلم الفرنسي روبرت ريدكير بإهانة الإسلام. وصف ريدكير محمد بــ"آمر حربي عديم الرحمة يسعى للمغانم، قاتل لليهود و متعدد الزوجات". هذا التعريف ينطبق على الملك داوود أيضاً!؛ فقد كان له 18 زوجة، وكان سيد حرب عديم الرحمة وقد سفك دماء العديد من اليهود. تعدد الزوجات أمر اشترك به محمد مع إبراهيم، إسحاق، ويعقوب. وكل ملك أسس لسلالته الملكية ابتدأ كآمر حرب قاس وسفك دماء الكثير من الناس، علما أنهم لم يكونوا بالضرورة من اليهود. من يهتم إن كان المذبوحين يهودا أم لا؟ إن سألت هذا السؤال، فأنت غير مصاب بتناذر هامان!

لماذا يتوجب علينا الانهمام أوأن نولي انتباهنا لهذا الوله العالمي باليهود؟ ليس فقط لأجل فلسطين علينا أن نولي عنايتنا –بل ننهي- هذا الاستحواز. مستقبلنا ومستقبل أطفالنا على المحك. فرنسا هي أيضا ضحية لحكم الأقلية، أو بالأحرى حرب الأقلية ضد الأكثرية! عندما أعلن نيكولاس ساركوزي-الشخصية المحافظة المرشح لانتخابات الرئاسة العام المقبل- نفسه: "صديقاً لأمريكا وصديقاً لليهود" أثناء زيارته لواشنطن الأسبوع الماضي، هو لم يقصد محبته لسمك الجيفلتيه والهامبرغر (لا يوجد فرنسي بهذا الغباء)؛ هو أرسل تلميحا مرمزاً أنه سوف يدعم الأقلية مقابل الأكثرية!

بدلا عن التذبذب ما بين يسار بلير و يمين ساركوزي، الذين يجمعهما عشقهما للأقلية الثرية، يمكننا أن نتحرى الدروب المفقودة التي تقود إلى حكم الأكثرية.
اليسار يمكنه متابعة العمل غير المنجز لثورة ال68 -من حيث فشلت، غدر بها، وأسيئ استخدامها لمنح الأخلاقيات اليهودية مكان السبق- على يد أمثال: دانيل كون-بندت، تود غتلين، ويوشكا فيشر. واليمين يعيد إبداع الروحانيات الرجولية لـ تشيستيرون، إيليوت، إيفولا، وغوينون. معاً، بإمكانهم أن يبعدوا الناس عن هاوية العبودية إلى بوابات الحرية، ويهدموا السلطة المفروضة لتيار وسائل الإعلام والمؤسسات الجامعية القائم، ويقوضوا الخطة "المرسومة بدقة بعيدا عن نداءات الجماهير وصرخات ضحايا المجتمع، بعقول سرمدية صافية" (لوكوربوزييه)، بالتالي يستعيدون العدالة والإنصاف المطلوبين في وصية "كانت"، بدلا من الاستثنائية المنحرفة لتناذر هامان.

No comments: